تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد أن النبوة قد باينت كلا المسلكين فلا انكباب على الدنيا برسم الشهوة، ولا انعزال عنها برسم الخلوة، وإنما يأخذ العاقل منها نصيبه برسم: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، ويجعله مع ذلك زادا في سفر الهجرة، فـ: (ابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ)، فجاء الأمر إرشادا ثم ذيل بنهي احترازي لئلا يقع الغلو في ابتغاء الدار الآخرة، فلكل مكلف بما ركز فيه من قوى الشهوة الجبلية نصيب من الدنيا فإن نسيه فقد عرض بدنه للهلكة وعرض دينه للنقص وإن ظن الكمال في ذلك، فإن الدين لا يقام بأبدان ضعيفة وعقول فاسدة لم تنل حظها من الراحة والاستجمام، فـ: "روَّحوا عن القلوب ساعة، فإنها إذا أكرهت عميت" كما تقدم من مأثور كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وهذا ما نجح فيه الإسلام نجاحا باهرا وفشلت فيه النصرانية المبدلة فشلا ذريعا حال أتباعها الآن وما هم فيه من تعاسة مع تعدد وسائل الترف، حالهم خير شاهد على ذلك التطرف الفكري غلوا في هجر الملذات كما كانت سيرة الرهبان الأوائل، ثم ولوغا في الشهوات انحط بكثير منهم عن دركة الحيوانية فضلا عن الآدمية، وتلك، كما تقدم، سنة كونية نافذة، فبعد الشرة فترة، وبعد الحماس فتور فمن لم تكن فترته إلى السنة، فإنه سيهلك بما يرد على نفسه من السآمة والملل، فـ: "إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل"، فتدعوه نفسه إلى غلو في الجانب الآخر تعويضا لها عما فاتها من حظوظها الدنية، فإن لم يكن الإنسان على منهاج النبوة توسطا واقتصادا، فإنه سينحرف لزوما إلى إحدى الطريقين، فإما رهبنة غالية تحتقر المحسوس بل تجعل مباشرته مظنة الخسة فلا يسلم صاحبه ولو باشره برسم الاعتدال المشروع فخلا عن كل محظور بل قد يصير قربة!، لا يسلم ولو كان ذلك وصفه، من تلطخ بأقذار الدنيا! فيحجب من تلك حاله عن دخول الملكوت الذي لا يدخله إلا الغلاة من الرهبان وكأن الرب، جل وعلا، قد امتحن العباد في باب العلم بتصديق المحال فجعله أصلا في حصول النجاة بل لن يحصل الخلاص إلا به ولو كان عين القدح في ذات ووصف الرب، جل وعلا، ثم امتحنهم بمحال آخر في باب العمل ففرض عليهم من صنوف التعذيب لأبدانهم ما لا يحتمله إلا آحاد البشر فهم استثناء لا يقاس عليه حال عموم المكلفين فكيف تأتي شريعة الرحمن الذي وصفه الرفق بما يحصل به العذاب الفكري الأليم بتصديق المحال الذي يوقع صاحبه في الاضطراب النفسي الذي نشهد الآن صورا كثيرة منه في العالم الغربي النصراني الذي آمن بخرافة بولس التثليثية وسلم لواضعها بأنه لا فداء ولا تطهير من دنس الخطيئة إلا باعتقاد صلب رب الخليقة، جل وعلا! وذلك، كما تقدم مرارا، عين القدح في ذات ووصف الرب، جل وعلا، فلا تطمئن النفوس بعبادة رب عجز عن غفران ذنب عبد من عباده فاضطر إلى تحمل آلام الفداء نيابة عنه!، فأخذت الذرية بجريرته وذلك من الجور الذي تنزه عنه الرب الحكيم العادل فـ: (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وأين ذلك من معاني الرحمة الربانية بإلهام المذنب كلمات التوبة وقبولها على جهة الفور، فضلا عما يجده العقل من فساد ضروري في فرض جريان عوارض النقص البشري على الرب العلي، فذلك من الفساد العقلي بمكان، فبه يضمحل الفرقان بين مقام الربوبية الأعلى، ومقام العبودية الأدنى، فأي خطل أعظم من ذلك وأي فساد في العقل واضطراب في القلب يجده من يصدق تلك الأوهام، فكيف تأتي شريعة بما يحصل به ذلك في باب العلم، ويحصل به في المقابل فساد في الدنيا عريض بزهد غال يضعف البدن والعقل لاحقا فيحلق صاحبه في سماء الوساوس الشيطانية فقد تنزلت عليه الشياطين لفساد عقله وقلة علمه، فحصل له من فساد التصور الديني ما يقترن لزوما بفساد العمل، فهو في فساد عريض في أمر الدين والدنيا.

يقول صاحب كتاب "كنت نصرانيا":

"عكس النّصرانية، الإسلام يدعوك - قبل أن تؤمن - للنّقد وللتفكير، لكن على أساس من البراهين والحجج. وهذا فقط من أجل أن يثبّت قلبك ويشتد عزمه، حتى يؤمن عقلك بهذه العقيدة التي هي في غاية البساطة والوضوح.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير