"أما العلم، فإن علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذي يحيط بالكل، حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. وقد خاطب الخلق كلهم فقال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85].
ولو اجتمع أهل السماوات والأرض، على أن يحيطوا بعلمه وحكمته فى تفصيل خلق نملة، لم يطلعوا على عشر عشر ذلك، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، والقدر اليسير الذي علمه الخلق كلهم، بتعليمه، علموه. ففضل علم الله سبحانه على علم الخلائق كلهم خارج عن النهاية، إذ معلوماته لا نهاية لها.
وأما صفة القدرة، فهي أيضاً صفة كمال، فإذا نسبت قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى، وجدت أعظم الأشخاص قوة، وأوسعهم ملكاً، وأقواهم بطشاً، وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره، غاية قدرته أن يقدر على بعض صفات نفسه، وعلى بعض امتحان الإنس في بعض الأمور، وهو مع ذلك لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى، ولا على حفظ لسانه من الخرس، ولا آذانه من الصمم، ولا بدنه من المرض، ولا يقدر على ذرة من ذرات المخلوقات. وما هو قادر عليه من نفسه وغيره، فليست قدرته من نفسه، بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه والممكن له من ذلك. ولو سلط بعوضة على أعظم ملك وأقوى شخص لأهلكته، فليس للعبد قدرة إلا بتمكين مولاه". اهـ
"مختصر منهاج القاصدين"، ص285.
وعرفه بإحسانه فقد أحسن إليه بالإيجاد وأحسن إليه بالإمداد بالنعم الشرعية والكونية فـ: (إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا): فالإضافة مئنة من العموم فيشمل أفرادا لا حصر لها في الخارج وإضافته إلى اسم الله عز وجل آكد في تقرير المعنى، فهي نعم كثيرة لا يحصيها عاد، عظيمة يعجز البشر مهما اجتهدوا عن شكرانها، فـ: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".
بل من عرف كمال وصفه وإحسانه أحبه وإن لم يصل له شيء من آثاره فكيف وهو ينعم بآثار إحسانه ليل نهار؟!.
يقول صاحب "مختصر منهاج القاصدين" رحمه الله:
"إن المحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه محبوب فى الطباع، فإنه إذا بلغك عن ملك من الملوك أنه عالم عادل عابد رفيق بالناس، متلطف بهم وهو في قطر بعيد، فإنك تحبه، وتجد فى نفسك ميلاً كثيراً إليه. فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن، فضلا عن أن يكون محسناً إليك. وهذا ما يقتضي حب الله تعالى، بل يقتضي أن لا يحب غيره، إلا بحيث أن يتعلق منه بسبب، فإنه سبحانه هو المحسن إلى الكل كافة، بإيجادهم وتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم وترفيههم، إلى غير ذلك من النعم التي لا تحصى، كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34 والنحل: 18]. فكيف يكون غيره محسناً؟ وذلك المحسن حسنة من حسنات قدرته، فمن عرف هذا لم يحب إلا الله تعالى". اهـ
"مختصر منهاج القاصدين"، ص284.
فيحبونهم كحب الله: فـ: "كحب الله": وصف لموصوف محذوف هو مصدر العامل على تقدير: يحبونهم حبا كحب الله، فيكون ذلك من بيان النوع بالمصدر، على وزان قولك: سار زيد سيرا حسنا، فـ: "سيرا": مصدر موطئ لما بعده فلا يراد لذاته، وإنما يراد لوصفه، فكذلك الشأن في الآية، فالمصدر المقدر: موطئ لوصفه: "كحب الله" فحسن من هذا الوجه، والله أعلم، حذفه، فليس مرادا، وإنما المراد وصفه المبين لنوع محبتهم، وقد يقال بأن ذلك من قبيل التشبيه المرسل المجمل فوجه الشبه مجمل فيحتمل:
أنهم يحبونهم كالحب الواجب لله عز وجل، وقد أظهر الاسم الكريم في: "كَحُبِّ اللَّهِ"، فتقدير الكلام: يحبونهم كحبه، مئنة من عظم الواجب من حبه، جل وعلا، فعظم الفعل من عظم متعلقاته، ومئنة من عظم جرمهم فليست التسوية الجائرة: بين حب مخلوق وآخر، بل هي بين أعظم متباينين: حب الله جل وعلا، وحب أندادهم، فالإنكار هنا جار على أصول القياس الصحيح فتوجه إلى من سوى بين متباينين، فذلك في البطلان قسيم من فرق بين المتماثلين، ولو سوى بين متباينين في هذه الحياة فأحب فلانا من الفجار كحبه فلانا من الأبرار لتوجه الإنكار إليه، فكيف
¥