وقد سوى بين محبة الخالق جل وعلا الأول الكامل، ومحبة المخلوق الحادث الناقص.
أو: أنهم يحبون أندادهم كما يحبون الله فالذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم له تبارك وتعالى، فالشركة مظنة النقص بتوارد الشركاء على محل واحد، فـ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
أو: أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله، والذين آمنوا أشد حبا لله، عز وجل، من حبهم لأندادهم، فلا يحبون الله، عز وجل، ابتداء، بل قد أشربت قلوبهم محبة غيره فلم يعد فيها محل لمحبته، فقد اغتذت نفوسهم بمحبة باطلة فزهدت في المحبة الواجبة، فلا يجتمع النقيضان في محل واحد، وإنما يرتفع أحدهما بثبوت الآخر.
وكلها، والله أعلم، معان صحيحة يصح حمل السياق عليها بل تواردها على السياق الواحد مما يثريه، وذلك جار على ما تقرر مرارا من بلاغة التنزيل الخاتم فكلماته وجيزة المبنى عظيمة المعنى تجمع معان كثيرة بدلالاتها: تصريحا بالمنطوق، ودلالاتها: تلميحا بالمفهوم: موافقة لحنا، أو فحوى، أو مخالفة، أو اقتضاء، أو إشارة ...... إلخ.
والندية كما في "اللسان" مئنة من الضدية، فـ: "الأَنْدَادُ جمع نِدَ بالكسر وهو مثل الشيء الذي يُضادُّه في أُموره و يُنادُّه أَي يخالفه ....... وقال أَبو الهيثم: يقال للرجل إِذا خالفك فأَردت وجهاً تذهب به ونازعك في ضِدِّه: فلان نِدِّي و نَدِيدي للذي يريد خلافَ الوجه الذي تريد وهو مستقِلٌّ من ذلك بمثل ما تستَقِلُّ به قال حسان: أَتَهْجُوهُ ولَسْتَ له بِنِدٌّ فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِدَاءُ أَي لست له بمثل في شيء من معانيه". اهـ، فكل ند يضاد نده، فكذلك شأن تلك الأنداد فإنها تضاد الرب، جل وعلا، وتنازعه منصب الألوهية، برسم الطاغوتية إن رضوا، وبرسم: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، إن أبوا، فيهلك من غلا في المسيح عليه السلام ولا يهلك المسيح عليه السلام بداهة!.
والندية من وجه آخر تدل على التماثل والتشابه معا، كما حكى في "اللسان" عن الأخفش رحمه الله: "قال الأَخفش: النِّدُّ الضِّدُّ والشِّبْهُ. وقوله: يجعلون أَنْداداً أَي أَضداداً وأَشباهاً. ويقال: نِدُّ فلان و نَدِيدُه و نَدِيدَتُه أَي مِثْلُه وشَبَهُه". اهـ، فليس لله، جل وعلا، شبيه في الحقيقة، وإن حصل التشابه في أصول معاني الذات والصفات، فذلك من الاشتراك المعنوي في الذهن فلا يلزم منه، كما تقدم مرارا، التشابه في الحقائق في الخارج، فليس لله، جل وعلا، شبيه في حقيقته الكاملة وليس له من باب أولى ضد أو مثل، فاستوفى لفظ "الندية" كلا المعنيين، وذلك مئنة من دقة ألفاظ التنزيل في الدلالة على المعاني، فذلك من قبيل دلالة لفظ "الريب" على: الشك وقدر زائد عليه هو الحركة والاضطراب، فدلالته، أيضا، مزدوجة.
والشاهد أن كل تلك الصور من صور الندية التي يشملها عموم "أندادا"، فهي من صور العموم القياسي لورودها منكرة في سياق شرط خبري، أريد به إنشاء الذم لهم فحسن إبهام أعيانهم لعظم جرمهم، كما أشار إلى ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، فذلك من جنس قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما بال أقوام".
فتأويل الخبر في معرض الوعيد فـ: (لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ): تأويله: احذروا اتخاذ الأنداد للرب، جل وعلا، فذلك ذريعة إلى استحقاق العذاب الشديد.
والمضارعة في: "يرى" مئنة من استحضار الصورة، وتعلقها في: "يرون" بالظرف "إذ" الذي يدل على الماضوية: مئنة من تحقق الوقوع، فذلك أمر واقع لا محالة وهو من وجه آخر أمر يثير العجب ويسترعي الانتباه فحسن إيراده مورد المضارعة فهي مئنة من الحالية، فكأنه أمر مشاهد تعظم العبرة بالنظر إليه عيانا، فاجتمع فيه النظر بالبصيرة تفكرا، والنظر بالباصرة تمعنا.
¥