تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والقيم مؤثّرة بمجتمع دون سواه، وفاعلة ومنفعلة ضمن استعداد الفكر المجتمعيّ في مختلف جهات العالم الغربيّ، الذي سوّغت الدراسات اختزاله بإنمائه إلى أصوله وأرومته المشتركة.

كما أستطيع التنبيه إلى مشكلة أخرى لاتقلّ خطورة عن سابقتها، وهي ذلك التساهل الغريب الذي طبع الدراسات وبالخصوص المترجمة منها، حيث أجاز أصحابها لأنفسهم حريّة تقليب المصطلحات، واستعمالها في غير مواضعها، ما أوقع الدارسين اللاحقين عليهم في منزلقات كبيرة، وهذا الأمر إن لم يكن متأتياً من عدم الدراية الدقيقة باللغة، فهو نابع من الجهل الأكيد بالمفاهيم والمصطلحات وتحوّلها في عصور الأدب ونظريّته النقديّة. وأزعم في هذا السياق، أن الأمر برمته يحتاج إلى مراجعة، بل مراجعات حثيثة وجادّة لإخراج الصورة القريبة من الحقيقة، إن لم أبالغ وأقول الصورة الحقيقية.

ومهما يكن الأمر، فما يمكن التواضع عليه، هو أنّ قصيدة النثر جاءت نتيجة حاجة اقتضتها معطيات تأريخيّة انتهت بالشعر وبالأدب عموماً إلى حالٍ من الرتابة والجمود، وكان لا بد من ثورة تعصف بهذا الانصياع الأعمى إلى الثبات والتحجّر الذي ترسمه عوامل خارجيّة، وأخرى داخليّة؛ سياسيّة واقتصاديّة وإجتماعيّة، من شأنها أن تؤثّر سلبا على المنجز الفنيّ بجميع أبعاده.

وحتى لا نغرق في تفاصيل بواعث النشأة ومسبباتها، سيكون من الناجع الولوج في صلب القضيّة التأريخيّة، مراعين مايتعلّق بها من مواقف نقديّة، ومبيّنين ضمنيّاً موقفنا من الآراء الواردة بشأن نشأة الشكل، وبما يتناسب واشتراطاته الموضوعيّة وحدوده القانونيّة، مستندين في ذلك إلى ما توصّلنا له في مهادنا النظريّ الذي سيكون ركيزة لجملة نتائجنا في هذه الدراسة. مع الإشارة إلى أنني آثرت تسمية المناخات الأولى التي نشأت فيها قصيدة النثر غير العربيّة ـ على الرّغم من تعددها ـ الحاضنة الأولى، مستندا في ذلك إلى حقيقة كونها شهدت الولادة الأولى لشكل قصيدة النثر، بمختلف صوره، وما استقرّ عليه الشكل من أنموذج نصيّ سواء أكان ذلك ممهّدا لما عرف بالشعر الحرّ () في الأدب الإنكليزيّ ـ الأميركيّ تحديدا، ممثلا بتجربة والت ويتمان ()، أم ما أفضى إلى قصيدة النثر بمفهومها الفرنسيّ، لدى بيرتران وبودلير ولوتريامون ورامبو وفرلين () وسواهم من الشعراء الفرنسيين الذين شكّلوا علامة فارقة في مسيرة القصيدة النثريّة وشكلها الأنموذجيّ الذي يجهد المنظّرون في تكريسه، والذي سيشكل قوام جهدنا البحثيّ في المصطلح وإشكاليّته من دراستنا هذه.

2

كانت الإشارة الأولى التي ورد فيها ذكر قصيدة النثر قد صدرت عن بوالو ()، في مؤلفه: رسالة إلى بيرو () عام 1700، يقول: " هناك أصناف من الشعر لم يسبقنا إليها الرومان ولم يعرفوها، كتلك القصائد النثريّة التي نسميها " روايات " على سبيل المثال" ().

هذه الملاحظة على الرغم من ريادتها لم تكن معنيّة بتسمية نصوص شعريّة معيّنة، ولم تبال باجتراح مصطلح مؤسّس في النظريّة النقديّة، ولم تكن لتكرس قصائد غنائيّة تكتب خارج النظام التقليديّ للشعر. ولكنها اكتفت بحريّة مجازيّة، لتصف بواكير (الرواية) الخارجة من معطف (الملحمة) التي عرفها الأدب عبر عصوره القديمة، وفي حضاراته الإغريقيّة واللاتينيّة بوصفها أحد الأنواع الشعريّة الكلاسيكيّة الكبرى.

إذن فإطلاق بوالو تسمية (قصيدة نثريّة) على نصوص أسّست لمفهوم الرواية خارج أوزان الملحمة وعروضها التقليديّ لا يمكن اعتماده شروعاً اصطلاحيّاً لأنموذج شعريّ كما هو أمر قصيدة النثر. هذا إذا سلّمنا أولاً بأنّ المراد بصفة النثريّة التي استعملها بوالو في هذا النص هي الخروج عن سياقات النظم تحديداً، وبالذات الموسيقى والإيقاع الكميّ والقافية بمختلف أنواعها الموحّدة وغير الموحّدة. وليس الأمر من قبيل الخروج على الأعراف اللغويّة واستخدام الأساليب البلاغيّة المتداولة في النثر، ومنها الكنايات بالمقابل من البلاغة الشعريّة القائمة على المجازات كما هو سائد في الفكر الأدبيّ عند الغربيين، وهذا ما جهدت الدراسات النقديّة الحديثة في محاولة إيضاحه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير