تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعلى الرغم من إيراد سوزان بيرنار نص بوالو السابق في سياق تأصيلها لقصيدة النثر في مبحثها الافتتاحي (مقدمة تأريخيّة لقصيدة النثر ما قبل بودلير) الذي خصّصته لمراجعة البوادر الأولى لقصيدة النثر الفرنسيّة حصرا، إلا أنّها عادت في الفصل الثالث من دراستها وتحديدا في مبحثها الخاص بجماليّة قصيدة النثر لتحذّر من سوء الفهم الذي قد يتسبب فيه الاستخدام الواسع للمصطلح، مشيرة إلى أنّ الخطاب النقديّ في القرن الثامن عشر كان يسوّغ إطلاق تسمية (قصيدة) على كلّ نصّ أدبيّ، فمسرحية لراسين كانت تسمّى (قصيدة مسرحيّة)، ورواية مثل تليماك تسمّى (قصيدة نثريّة)، وبقي هذا المعنى متداولاً، ومعمولاً به في الدراسات والوثائق النقديّة حتى القرن التاسع عشر ومشارف القرن العشرين. ()

إنّ اعتماد مطلع القرن الثامن عشر تأريخاً لولادة قصيدة النثر ـ بتصوري ـ يأتي في إطار المبالغة التي يمكن وصفها بالبسيطة مقارنة بمبالغات وأوهام مثيرة للاستغراب، تحاول البحث عن أصول لقصيدة النثر في حضارات قديمة أو منقرضة، فبعضهم يجد " أنّ تأريخها في الحقيقة هو أبعد بكثير من القصيدة (النثريّة) الحرّة، فهناك من يبحث عن جذورها في الأدب الصيني (سلالة هان – 206 ق. م وحتى 220م) وآخرون يربطونها بالنصوص والأشعار التي تتضمنها التوراة " ().

وإذا كان تأريخ الأدب الفرنسيّ حافلاً بمثل هذه الإشارات التي أسهمت في ترسيخ قصيدة النثر وإشاعة استعمال المفهوم، وإنْ لم يأخذ قوّة الإصطلاح، فإن تأريخ الأدب الإنكليزيّ، هو الآخر، سعى إلى إيجاد جذور لهذا الشكل من الشعر الغنائيّ.

ولعلّ ما يثير الاستغراب في هذه القضيّة، هو أنّ الأدب الإنكليزيّ الحديث لم يكرّس مفهوم قصيدة النثر بمعناه الدقيق كما هو الحال مع الأدب الفرنسيّ، واكتفى بترسيخ مفهوم (الشعر الحرّ)، الذي وجد فيه الشعراء الإنكليزيّون أنموذجاً رسميّاً للخروج على محددات الشعر الكلاسيكيّ. ومن هذا المنطلق رأى الشاعر الإنكليزي المعاصر ستيفن سبندر أنّ قصيدة النثر ليست شعراًَ بالمعنى الدقيق بل هي قريبة منه، وعزا عدم انتشارها في إنكلترا إلى عقلانيّة الشاعر الإنكليزيّ، وما دعاه عنصر الوعي الغالب عنده، فالشعر الإنكليزيّ يبقى مرتبطا بحضارته مهما كان ثوريّاً، وهذه الصلة الحضاريّة تعيقه عن الجموح () بحسب ما يعتقد.

وعلى النقيض من ذلك، فإنّ جذور قصيدة النثر في الشعر الإنكليزيّ ـ كما يرى بعض الدارسين ـ ترقى إلى القرن الثالث الميلادي، وتتمثّل هذه الجذور بقصائد قصيرة تتسم بالروح الشفّافة والحكمة، يطلق عليها بالإنكليزيّة ( aphoristic prose poem) ، تنسب إلى شاعر ايرلنديّ مجهول، لا يعرف عنه سوى اسمه (أوسيان - Ossian) ، كان يكتب قصائده النثريّة تلك باللغة (الغاليّة) التي كانت شائعة في الشمال البريطاني آنذاك. وقد تعرّف العالم على هذا الشاعر وأثره بجهود الشاعر الانكليزيّ (جيمس ماكفيرسون 1736 – 1796)، الذي قام بجمع القصائد وترجمتها ().

وعلى الرغم من التحفظ الذي أثير بشأن عدّ الأنموذج الأوسياني هذا لحظة شروع لشكل قصيدة النثر بالمعنى النقديّ الدقيق، حيث شكك نقاد إنكليزيّون بصحّة نسبة النصوص الشعريّة المقصودة إلى أوسيان الذي وصف بالأسطوريّ، " وقد دلّت التحرّيات والتحقيقات على أن ماكفرسون قد أعاد كتابة القصائد الأسطوريّة، وأضاف إليها الشيء الكثير من عنده " ()، أقول على الرغم من التحفّظ المعلن هذا، إلا أنّ من الدارسين من لايجد في ذلك غضاضة و" لا ينفي تلك الملامح الأوليّة لإرهاصات النمط " (). دونما مراعاة للشروط التطبيقيّة الواجب اتباعها في التحليل النقديّ، فنصوص أوسيان، بغضّ النظر عن صدقيّة نسبتها إليه، مكتوبة في القرن الثالث الميلادي، ولا توجد أدنى إشارة إلى كونها كتبت لتؤسّس لشكل خارج على سيادة الشكل الغنائيّ المعهود للقصيدة القصيرة آنذاك، إضافة إلى أنّ الوثيقة المعتمدة في الشعر الإنكليزيّ تنصّ على زعم شاعر من القرن الثامن عشر وقوعه على هذه النصوص، وأنّه قام بترجمتها عن لغة أخرى (الغاليّة)، وهذا يقتضي تجريد النصّ الأصليّ من ضوابطه الشكليّة والصوتيّة، بمعنى أنّ الأوزان تفقد قيمتها الإيقاعيّة في حال نقلت إلى لغة أخرى. وهو ما حصل فعليّاً مع هذه النصوص

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير