تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومنذ تلك الطموحات التي راحت تتحقق بجهود شعريّة متميّزة قدّمها شعراء عظام من أمثال رامبو وفرلين ولوتريامون ومالارميه، صار من غير المناسب إغفال الأثر الكبير الذي أحدثته قصيدة النثر في واقع الشعريّة الحديثة، في جميع أنحاء العالم وفي اللغات الانسانيّة كلها. بل صار بالإمكان التحدّث عن قصيدة نثر أنموذجيّة معاصرة، وهذا ما سوف نعرضه في السطور الآتية، محدّدين ضمنيّاً أبعاد هذه القصيدة التي ارتأينا أن تكون في سياق دراستنا هذه شكلاً من أشكال القصيدة الغنائيّة، فقد أوضح الشاعر الفرنسيّ لوك ديكون في مقدمة الانطولوجيا التي أعدّها عن قصيدة النثر، وصدرت عن (دار سيغرز، 1984)، أن المقاييس والشروط التي يجب توافرها في قصيدة النثر، يمكن تلخيصها في ما يأتي:

إنّ قصيدة النثر عمل فنّي، وكأيّ عمل فنيّ آخر، فهي ذات قابليّة لتوليد انفعال خاص، يختلف تماماً عن الانفعال الحسّيّ أو الانفعال العاطفيّ. وبغية تحقيق هذه الغاية، ينبغي على قصيدة النثر أن تختار الوسائل المناسبة؛ وأن تختار الأسلوب. أو بعبارة أكثر وضوحاً، عليها أن تختار الموادّ المركّبة للعمل المتكامل. وعليها أن تكون قصيرة ومكثّفة، وخالية من الاستطرادات والتطويل والقصّ المفصّل وعليها التخلّي عن تقديم البراهين والمواعظ. إنّ على قصيدة النثر أن تكون قائمة بذاتها، مستقلّة بشكلها وبنائها، ومستمدة كينونتها من ذاتها، مبعدة ومنفصلة تماماً عن المؤلف الذي كتبها؛ كما ينبغي أن تمتنع قدر الامكان عن إقحام أمور لا تمت لها بصلة، وذلك لكي تتحلّى بالغرائبيّة والإدهاش وبقدرة المقبوليّة وقوّة الخيال. والمهم أن تتواجد تواجداً حرّاً داخل هامش ما.

إنّ انتقاء الاسلوب وتحديد المقام يفرضان ما يمكن تسميته " التأثير " و " الانغلاق " فقصيدة النثر ذات شكل متكامل، محدّد بخطوط واضحة، ونسيج محكم. إنّها عمل مغلق على ذاته، مثله مثل الفاكهة أو البيضة.

إنّ قصيدة النثر ذات البناء المحكم والإطار الواضح، لا تستدعي الإغراق في استعمال الأدوات الجماليّة، أو المبالغة بالصور والتزويق، يجب أن تنأى عن كلّ تظاهر متعمّد. فهي مادّة جاهزة وليست عارضة مجوهراتي. ينبغي على قصيدة النثر أن تبتعد عن أيّة مقابلة مع الواقع، فلا مجال للمقارنة بينها وبين أيّ شيء آخر لإقامة التشابه. إنها لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها هي.

وبقدر ما تبدو هذه الشروط أساسيّة لتحقيق قصيدة النثر الأنموذجيّة إلا أنّها ليست نواميس يتوجّب إخضاع قصيدة النثر لسطوتها. ()

وإذا أضفنا إلى هذه المحدّدات، المزايا الثلاث التي أستقرأها (موريس شابلان) في قصيدة النثر، وهي: (الإيجاز، والتوتر، والمجانية)، هذه المميّزات التي اعتمدتها (سوزان بيرنار) أساساً في طروحاتها، نكون قد أحطنا علماً بأبعاد قصيدة النثر الغربية، غير متناسين الشرط الضمنيّ الذي تضعه بيرنار لتحقّق قصيدة النثر وهو (القصد)، فقصيدة النثر وعي قبل كلّ شيء.

إن هذا المبحث الذي تتبّعنا فيه – تأريخيّا – أوّلية قصيدة النثر في الشعريّة الأوربيّة، قادنا إلى جملة نتائج تتحقق فيها مركزيّة قصيدة النثر ضمن الحاضنة الأولى المنشئة لها، وبما أنّنا نسعى إلى الكشف عن تأريخ هذه القصيدة في حاضنتها الثانية، أو الحاضنة الثقافيّة العربيّة، التي ضيّفت قصيدة النثر وكرّستها عبر تأريخ شعري طويل نسبيّاً، فقد لزم إفراد هذا التقصّي ومديات الإلتقاء والإفتراق بين الأنموذج الأصليّ لقصيدة النثر والأنموذج العربيّ المتصادي معه، في مبحث مستقل يتبع مبحثنا هذا.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير