تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

" غاسبار الليل "، الذي يعدّ بحسب (د. شواب): (مفصلاً أزليّا لتأريخ الأدب). فبهذا الكتاب تحديداً يبدأ عصر قصيدة النثر، ومنذ هذه اللحظة صار بالإمكان التحدّث عن نوع أو شكل أدبيّ جديد، خالقه بحق بيرتران، إنها لحظة الولادة الفعليّة لقصيدة النثر الفرنسيّة، وهذا ـ بالتأكيد ـ أمر لا ينكره أحد. لقد صار بالإمكان الحديث عن (قصيدة النثر) ولكن، هل ما يكتب اليوم تحت هذا الاسم يتطابق مع قصيدة بيرتران النثريّة؟.

ليس غريباً أن يأتي الجواب سلبياً، فالدور الحقيقي لبيرتران يكمن في أنّه استطاع أن يمنح استقلالاً كاملاً لنوع لم يتحرّر تماماً حتى ذلك الحين. من النثر الشعريّ، وأنه قد ميّز من دون غموض شكل " قصيدة النثر" من الأشكال " الشعريّة " المجاورة، كما أنه استطاع أن ينقّي (قصيدة النثر) من العناصر النثريّة. ليظهرها إلى الوجود شكلاً شعريّاً غنائيّاً أدبيّاً خالصاً.

وعدا ذلك، فإنّ " ما يؤاخذ عليه بيرتران خاصة، هو فرضه على قصائده إطاراً ضيّقاً ومطّرداً على الدوام، جاعلاً من الأداة النثريّة نوعا ذا شكل ثابت، مثل السوناتة أو الروندو. لماذا هذا الشكل " المسبق "؟ ولماذا ستة مقاطع وليس مقطعين أو ثمانية بحسب المتطلبات الداخلية للموضوع الشعريّ؟ (…) وربّ قائل يقول هل يستحق الأمر أن نحرّر شكلاً ونحطم سمات موجودة لنبتكر شيئاً ذا خصائص محدودة؟ " ().

لقد حاولت سوزان بيرنار ـ من خلال ما تقدم ـ أن تعطينا تصوراً يقضي بأوّلية الشكل الجديد في إطار الشعريّة الفرنسيّة. وهذا الأمر من جانبه التأريخي لا يحتمل الخلاف. ولكن لنتساءل ما مدى تأثير بيرتران الفعليّ على سيرورة قصيدة النثر؟ الجواب سنجده عند سوزان بيرنار أيضاً، فقد كان بيرتران شخصاً هامشيّاً ومنعزلاً أو معزولاً. وهذا الواقع لم يتح له الإنتشار، وحتى كتابه " غاسبار الليل " الذي طبع بعد وفاته بعام، بكميّة إجمالية لا تتجاوز الـ (200) نسخة فقط، لم يأخذ نصيبه من الانتشار هو الآخر، وكانت النسخ التي بيعت أو أهديت عشرين نسخة لا غير، كما يقول الناشر. وبتعبير سوزان بيرنار: " لقد بقي أنموذج بيرتران وفنه حبراً على ورق بالنسبة إلى معاصريه " (). وسوف يظل بيرتران في عزلته الحالكة تلك حتى عام 1868، حيث يصدر كتابه " غاسبار الليل " في طبعته الثانية، وبتأثير من بودلير. هذا الشاعر الذي سيلعب دوراً كبيراً في إنضاج (قصيدة النثر) الفرنسيّة والذي سيكون أحد صنّاعها المهرة.

وحتى لا يستغرقنا التنظير في هذه المسألة، نعود إلى مقارنتنا التأريخيّة بخصوص التحوّلات المتحققة في بلورة مفهوم قصيدة النثر ضمن حاضنتها الأوربيّة الأولى… فنعود إلى لحظة بودلير الذي نشط في تلمّس الأبعاد المغايرة للنص الشعريّ الجديد الذي ينبغي أن يكرّس، في مقابل الكم الهائل من النصوص التقليديّة البائسة.

وكما فعل مع ديكونسي، كذلك صنع بتجربة أدغار ألن بو، حيث ترجم جملة من أعماله القصصيّة وقصائده النثريّة القصيرة، ومن يقرأ بودلير جيّداً، لابدّ أنه سيدرك مدى التأثّر الذي لحق به جرّاء قراءة (بو)، وهذا الأمر لا يشكّل إدانة لعبقريّة بودلير الشعريّة، بل يحدد لنا الآليّة التي اتّبعها لخلق شخصيّته الشعريّة الفائقة.

إنّ بودليرأحد الآباء الشرعيين ـ لا ريب ـ للشعر الحديث. وهو معلّم من طراز رفيع، استطاع أن يغني تجربته الذاتيّة بالتلاقح مع تجارب غنيّة بحسب نظرته هو، لا بحسب الذائقة السائدة، التي خرقها باعتماده كل ما هو هامشيّ ومنبوذ، وبحساسيّة نادرة استطاع أن ياخذ الاعتراف بجدوى نظرته وحصافتها. ألم يقل مرة: " من منّا لم يحلم بتحقيق طموحه، بشعر نثريّ وموسيقيّ بلا وزن أو قافية …" ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير