تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مصر ينفذ البرنامج، وتتجه صحة إبراهيم اتجاهاً حسناً، وبعد بضعة أسابيع يعود الوالد بولده إلى نابلس، قرير العين، ناعم البال، على أن يعود إبراهيم للشغل في مصر بعد أن يُمضي مع ذويه أياماً قليلة. غير أن الأم تأبى عليه ذلك، وتحكم أن يظل ولدها قريباً منها، وتدخل العاطفة في الموضوع .. زد على ذلك أن أباه لم يكن راغباً في شغله في مصر. وكانت هنالك ظروف أخرى، شاءت أن يلغي إبراهيم برنامجه الصحافي ويضرب بهذا الأمل المنشود عرض الحائط، ولو لمدة سنة. وفي هذه الآونة، كانت وظيفة معلم اللغة العربية في مدرسة النجاح الوطنية بنابلس شاغرة. فيأتي إلى إبراهيم والده، يقنعه بالموافقة على التدريس هناك، فهذه خدمة وطنية مشكورة، أضف إلى ذلك أن المسؤولين في المدرسة، سيجعلون ساعات العمل بحيث لا يرهقونه، ثم إن هذا العمل في بلده، وإنه لون من ألوان الاختبار يقطع فيه إبراهيم جزءاً من أوقات الفراغ الطويلة المملة. ويكون رد إبراهيم على أبيه بأنه لا يستطيع أن يتصور نفسه معلماً، فهذا عمل لم يُخلق له، وسيكون فيه خائباً لا محالة، ولكن أباه يبين له أنه سيعلّم في موضوعه، فلا يخرج عن نطاق ما خُلق له. وإذا بإبراهيم ذات صباح أمام فريق من الطلاب، على مقاعدهم الخشبية، وإذا به يكتب على اللوح: «الطقس جميل»، ثم يقول لأحد التلاميذ: أدخل «كان الناقصة» على هذه الجملة، فيقول التلميذ: «كان الطقس جميلاً». نعم .. كان الطقس جميلاً، فتعكّر، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن .. زاول إبراهيم مهنة التعليم في هذه المدرسة سنة واحدة، وكان له تأثير في بعض طلابه من الصفوف العالية، فحبب إليهم الشعر والأدب، ولا أزال أذكر ذلك اليوم الذي أقبل فيه يحدثنا مبتهجاً، بأن بعض تلاميذه النجب، قد بدأوا ينظمون الشعر على يده. خلال هذا العام الدراسي «1929 - 1930» كان إبراهيم ينظم الشعر الوطني، فيرسله صرخات حافزة، وناراً مشتعلة، ومن أشهر قصائده في ذلك الحين «الثلاثاء الحمراء». ففي حزيران سنة 1930 صدر حكم الإعدام على شهداء فلسطين الثلاثة، وذلك على أثر ثورة سنة 1929. وقد ضجّ أهل البلاد لهذا الحكم، وقدموا احتجاجاتهم ورجاءهم، فلم يغنِ ذلك عنهم شيئاً. وفي نهار الثلاثاء، السابع عشر من حزيران سنة 1930، كان التكبير على المآذن، وقرع النواقيس في الكنائس، يتجاوب صداهما في أرجاء فلسطين قاطبة، إذ في ذلك النهار، نُفّذ حكم الإعدام بالشهداء الثلاثة، في ثلاث ساعات متوالية، فكان أولهم فؤاد حجازي وثانيهم محمد جمجوم، وثالثهم عطا الزير، وكان من المقرر رسمياً أن يكون الشهيد «عطا الزير» ثانيهم، ولكن «جمجوماً» حطم قيده، وزاحم رفيقه على الدور حتى فاز ببغيته .. وهنا يأخذ الشاعر ريشته ليصور هذا اليوم المخضب بالدماء أروع تصوير، وليسجل في سفر الشعر الوطني الخالد، مصارع أولئك الشهداء، فتكون قصيدة «الثلاثاء الحمراء». وكان يوم حفلة مدرسة النجاح السنوية في نابلس، ولم يكن قد مضى على تنفيذ حكم الإعدام بهؤلاء الشهداء أكثر من عشرة أيام، فالنفوس لا تزال ثائرة، والعواطف لا تزال مضطربة، وفي تلك الحفلة، ألقى إبراهيم قصيدته «الثلاثاء الحمراء» .. وذُهل عن الجمهور، وشعر كأنما خرج من لحمه ودمه، فكان يلقي بروحه وأعصابه، فما انتهى حتى كان بكاء الناس يعلو نشيجه، ثم تدفقوا خارج القاعة في حالة هياج عظيم حتى لقد قال بعضهم يومئذٍ: «لو أن إبراهيم ألقى قصيدته في بلد فيه يهود، لوقع ما لا يحمد عقباه». يشير بذلك إلى فرط الحماس الذي أثارته هذه القصيدة في أولئك السامعين. وفي مطلعها يقول: لما تَعرّضَ نجمُكَ المنحوسُ وترنَّحتْ بعُرى الحبالِ رؤوسُ ناح الأذانُ وأعولَ الناقوسُ فالليلُ أكدرُ، والنهارُ عَبوس طفقتْ تثورُ عواصفُ وعواطفُ والموتُ حيناً طائفُ أو خاطفُ والمعولُ الأبديُّ يمعنُ في الثرى ليردَّهم في قلبها المتحجِّرِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير