تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لم تكد تبدأ عطلة العام الدراسي الأخيرة لسنة 1930 حتى كانت الجامعة الأميركية في بيروت، قد عرضت على إبراهيم، بواسطة الأستاذ أنيس الخوري المقدسي، التعليم في قسم الأدب العربي في الجامعة. كان مجرد فكرة العودة إلى بيروت، وآفاقها الرحيبة السحرية، كفيلاً بأن يجعل إبراهيم يوافق على مزاولة التعليم مرة أخرى، وعن طيب خاطر .. فلقد كان حبه لهذا البلد، ولأهله الكرام، حباً متمكناً من نفسه، إلى حد بعيد، بل لقد كانت بيروت عنده بمنزلة الوطن الثاني له، يرى في أهلها أهله، وفي عشيرتها عشيرته، وكيف لا يكون لهذا البلد في نفس إبراهيم مثل هذا المكان الرفيع، وفيه تفتحت زهرة شبابه أول ما تفتحت: أولُ عهدي بفنون الهوى بيروتُ، أَنْعِمْ بالهوى الأولِ .. وانتقل إلى الجامعة الأميركية، فدرّس فيها عامين، نظم خلالهما أروع قصائده التصويرية، مما يدخل في باب الموضوعيات من شعره. ولإبراهيم في هذا الباب قصائد فذة، تفيض بالصور الحية الناطقة. ولقد عادت المرأة، أو بالأحرى، عاد الجمال يحرّك قلب إبراهيم في بيروت، فيوحي إليه بأرق الشعر وأجزله. ومسارح الجمال في بيروت مختلفة الألوان، متعددة الصور، وهي هناك تكاد تكون مكشوفة النقاب لا تختبئ وراء حجاب. وإبراهيم نشأ في بلد متمسك بتقاليده وعاداته أشد التمسك، فهو يسدل دون المرأة ستاراً كثيفاً نسجه. ومن هنا، كانت بيروت مهبط وحيه في ما قاله من شعر في المرأة. وفي غادة أشبيلية أندلسية، كانت في بيروت، نظم إبراهيم في ما نظم من شعر غزلي في ذلك الحين، عدة قصائد، وهو يعترف بأن انجذابه إلى هذه الغادة، قد لا يكون بدافع جمالها، وخفة روحها، بمقدار ما كان يتقرّاه في خلقتها من الدم العربي وما كان يلاحظه من الفن العربي في ثيابها ورقصاتها. وأثناء إقامته في بيروت قدم الجامعة الأميركية الدكتور «لويس نيكل البوهيمي»، وهو مستشرق تخصص في الغزل العربي، فكان يتنقل بين عواصم الشرق والغرب، باحثاً في مكاتبها الكبرى عن الكتب المتعلقة بموضوعه، وكان من نتيجة ذلك أن ترجم إلى اللغة الإنكليزية كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، وقد تعرف إبراهيم بالدكتور نيكل عن طريق صديقه الأستاذ أنيس فريحة، وكان هذا المستشرق، حين تعرف بإبراهيم، قد بدأ بتصحيح كتاب «الزهرة» لابن داود الأصفهاني، وتعليق حواشيه وتنظيم فهارسه. فلما رأى مدى اطلاع إبراهيم على الشعر القديم دعاه إلى العمل معه وأشركه في تصحيح الكتاب وطبعه، وباشرا العمل معاً في اليوم الثاني للمقابلة الأولى، وفي بضعة شهور أنجزا عملهما فيه حيث طُبع الكتاب سنة 1932، ويقول الدكتور نيكل بهذا الشأن في رسالة خاصة تلقيتها منه: «… ثم أقمنا حفلة «الزهروية» في مطعم نجار، ونظم إبراهيم قصيدته «غادة أشبيلية»، وكانت تلك الأيام من أسعد أيامه وأيامي…». وفي نهاية العام الثاني لتدريسه في الجامعة، قدّم إبراهيم استقالته من العمل، وعاد إلى فلسطين، حيث زاول مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية في القدس. وفي هذا الحين، ضاق بعمله أشد الضيق، فنفّس عن الكرب الذي لحقه من هذه المهنة بقصيدته «الشاعر المعلم» وقد صاغها في قالب فكاهي عذب، صور فيه ما كان يكابده من مشقة التعليم، والجهد الذي كان يبذله، والعناء الذي كان يلاقيه من جراء ذلك كله. وفي أواخر سنة 1932، وقبل انتهاء الفصل الدراسي الأول، ألح عليه السقم، ولازمته العلة، فانقطع عن التدريس، وظل طريح الفراش، إلى أن اشتدت وطأة المرض، فأشار الأطباء بضرورة نقله إلى المستشفى، وإجراء عملية جراحية في معدته، ولقد كان من خطورة شأن هذه العملية، أن نفض الجراح يديه من نجاة مريضه من الموت بعدها، لما كان عليه إبراهيم من النحول والضعف. ولكن «الله في السماء، والأمل في الأرض!» فقد أُجريت العملية بالرغم من الشك الكبير في نجاته من خطرها. وتشاء حكمة الله، أن ينجو إبراهيم من الموت المحقق، ولقد أقر الطبيب سلامة مريضه كانت من معجزات الله، لا شأن لفن الطب فيها، ولا لحذق الطبيب، إذ كانت حال إبراهيم فوق هذين كليهما. وتماثل للشفاء، وحانت الساعة التي سيغادر فيها المستشفى، فشيّع الطبيب هذا «المولود الجديد»، كما كان يسميه، مهنئاً والديه به، وخرج إبراهيم وفي جيبه ورقة عليها هذه الأبيات:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير