تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إليكَ توجّهتُ يا خالقي بشكرٍ على نعمة العافيه إذا هي ولّتْ فمن قادرٌ سواكَ على ردّها ثانيه وما للطبيب يدٌ بالشفاءِ ولكنّها يدكَ الشافيه تباركتَ، أنتَ مُعيد الحياةِ متى شئتَ في الأعظم الباليه وأنتَ المفرِّج كربَ الضعيفِ وأنتَ المجيرُ من العاديه بلى، لقد كان إبراهيم يؤمن بالله إيماناً عميقاً صادقاً، وقد ابتلاه ربه بالحرمان من نعمة العافية، وهو في ريعان الشباب، فما وجده إلا صابراً متفائلاً، وإنك لتتصفح ما خلفه من مآثره الأدبية، فتراه قد عرض فيها مراراً عديدة لذكر مرضه وسقمه، ولكنه عرض مرح مبتسم، لا روح للتشاؤم فيه ولا أثر لشكوى الزمان، إذ كان المرح والابتسام خلقة في إبراهيم، فلم يكن لينظر إلى الدنيا إلا من وجهها الضاحك المشرق، وانظر إلى هذه الأبيات لترى كيف كان يواجه تنكر العافية: وطبيبٍ رأى صحيفةَ وجهي شاحباً لونُها، وعُودي نحيفا قال: لابدَّ من دمٍ لكَ نُعطيـ ـهِ نقيّاً، ملءَ العروقِ عنيفا لكَ ما شئتَ يا طبيبُ ولكنْ أعطني من دمٍ يكون خفيفا .. ضعف في البنية شديد، قد يبعث في غير إبراهيم التشاؤم والضجر، ولكنه هو، القوي بروحه، المرح بطبيعته لا يدع النكتة تفلت منه وهو في أشد حالات المرض: «أعطني من دم يكون خفيفا» .. غادر إبراهيم المستشفى موفور الصحة، وعاد إلى بلده بعد أن قدم استقالته إلى المدرسة الرشيدية في القدس، وقد عزم عزماً أكيداً على عدم العودة إلى هذه المهنة، مهنة التعليم، مرة أخرى. أمضى بعد ذلك عامين في نابلس، خدم خلالهما مدة في دائرة البلدية، وفي هذين العامين، نظم إبراهيم مقطعاته الوطنية التي كان يوالي نشرها في جريدة «الدفاع» والتي كان يُقبل عليها القراء بشغف عظيم، لما فيها من تصوير صادق لوضع فلسطين الخطير، وتفكك الأمة المريع، في تلك الفترة من الزمن. وفي سنة 1936 استلم إبراهيم عمله الجديد في القسم العربي في إذاعة القدس، وقبل الحديث عن أعماله هناك، أوثر أن أقف عند شعره وقفة قصيرة. إذا قرأت شعر إبراهيم، تجلت لك نفسه على حقيقتها، لا يحجبها عنك حجاب، ذلك أنه كان ينظر نظراً دقيقاً في جوانب تلك النفس، ثم يصوّر ما يعتلج فيها من عواطف وخلجات، كأصدق ما يكون التصوير، ومما كان يعينه على البراعة والصدق في التعبير، علم غزير بفنون الكلام وأساليبه، وهذا العلم كان نتيجة لاطلاعه الواسع على المآثر الأدبية الرفيعة، من قديمة وحديثة، إلى جانب القرآن الكريم، والحديث الشريف. وما أعرف كتاباً أدبياً كان أحب إليه من كتاب «الأغاني»، فقد كان يرى فيه دنيا تغمرها الحياة على اختلاف ألوانها، وناهيك «بالأغاني» من كتاب أدبي توفرت فيه المادة، وتنوع الأسلوب، واتسع فيه مجال القول في الأخبار والنوادر الأدبية على اختلافها. وكما كان كتاب «الأغاني» من أحب كتب الأدب العربي إلى إبراهيم فقد كان «المتنبي» من ناحية، «والعباس بن الأحنف» من ناحية أخرى من أحب الشعراء إليه وأقربهما من قلبه، وكان الدكتور «نيكل» قد ساعده في الحصول على نسختين تصويريتين لديوان «العباس» من إستنبول إذ كان في نية إبراهيم - لو أمهله الزمن - أن يُخرج هذا الديوان في طبعة جيدة أنيقة. وأما «شوقي» في الشعراء المعاصرين فهو سيد المكان في قلب إبراهيم، يمكنك أن تُقسّم شعر إبراهيم إلى ثلاثة أقسام: الغزليات، والوطنيات، والموضوعيات، وهذه الأخيرة تمتاز بعمق الفكرة، ودقة التصوير، وقد حلّق فيها إلى آفاق الشعر العالي، هنالك «الشهيد» و «الفدائي» و «الحبشي الذبيج» وغيرها. ولعل واسطة العقد في موضوعياته، قصيدة «مصرع بلبل» وهي فتح جديد في القصة الشعرية، نلمس فيها تأثر إبراهيم بالأدب الغربي دون أن يفقد مميزات خياله الخاص، وتعبيراته الشعرية الخاصة. وفي قصيدة «الشهيد»، ينقلنا إبراهيم بدقة وصفه، وروعة تصويره إلى ما يثور في نفس الشهيد من عواطف، واستقتال في سبيل الواجب الأسمى، لا يبتغي من وراء ذلك ذيوع اسم ولا اكتساب صيت، وإنما هو عنصر الفداء، وجوهر الكرم، صيغت منهما نفس الشهيد، فهان عندها الموت في سبيل الله والوطن. ومن موضوعياته الرائعة قصيدة «الحبشي الذبيح» وهي صورة حية ناطقة، يرسم فيها إبراهيم حالة ذلك «الديك الحبشي» الأليمة حين يُذبح ويأخذ يصفق بجناحيه، ويجري من هناك وهناك، مزورّ الخطى، كأنما هو يلحق بالحياة التي استُلبت منه، ولقد أوحى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير