تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إليه بهذا الموضوع العنيف، وقوفه يوماً برجل على جانب الطريق في بيروت يذبح ديوكاً حبشية يعدها لرأس السنة، وإذا بالنفس الشاعرة يروعها أن لا يقوم السرور إلا على حساب الألم، وإذا بها تفيض بأقوى الشعر التصويري الحي. ونلتفت الآن إلى إبراهيم شاعر الوطن، الذي سجل آلام فلسطين وآمالها خلال الانتداب الإنكليزي، كما لم يسجله شاعر فلسطيني من قبل. انظر إليه وقد خلّد ثورة فلسطين وشهداءها سنة 1929 في قصيدة «الثلاثاء الحمراء»، ثم يوم عاد في الذكرى الرابعة لهؤلاء الشهداء فخلدهم مرة أخرى في قصيدة «الشهيد»، كل ذلك في شعر لاهب حماسي، فلا بكاء ولا استخذاء، وإنما هي صرخات مدوية مجلجلة، تحفز الهمم، وتثير الشعور بالعزة والإباء. وأما بيع الأرض، فلم يزل إبراهيم يصور لقومه الخطر الذي ينتظر البلاد من وراء البيع، ولم يزل يفتح عيونهم على الشر الذي عمّ واستحكم من جراء ذلك: أعداؤنا منذ أن كانوا صيارفةً ونحن منذ هبطنا الأرضَ زُرّاعُ يا بائعَ الأرضِ لم تحفل بعاقبةٍ ولا تعلّمتَ أن الخصمَ خَدّاع لقد جنيتَ على الأحفاد وا لهفي! وهم عبيد .. وخُدّام .. وأتباع وغرّكَ الذهبُ اللمّاع تُحرزهُ إن السرابَ كما تدريه لمّاع فَكّرْ بموتكَ في أرضٍ نشأتَ بها واتركْ لقبركَ أرضاً طولُها باع وقد التفت إبراهيم مرات عديدة في شعره، إلى هذه الناحية، وحين نشرت الصحف أن زعيم الهند «غاندي» قد أنذر إنكلتره بالصيام مدى الحياة، ما لم تُغيّر خطتها السياسية في الهند، راح إبراهيم يغمز ويقارن بين زعيم هنا .. وزعيم هناك: حبذا لو يصوم منا زعيم ٌ مثل «غندي» عسى يفيد صيامُهْ لا يصمْ عن طعامه .. في فلسطيـ ـنَ، يموت الزعيمُ لولا طعامه ليصمْ عن مبيعه الأرضَ يحفظْ بقعةً تستريح فيها عظامه! وهو في رثائه للمغفور له الملك فيصل، يضرب على هذا الوتر نفسه، مشيراً إلى استقبال الجثمان الطاهر في فلسطين: ما الذي أعددتِ من طيب القِرى يا فلسطينُ لضيفٍ مُعجِلِ لا أرى أرضاً نلاقيه بها .. قد أضاع الأرضَ بيعُ السُّفَّل فاستري وجهَكِ لا يُلمحْ على صفحتيه الخزيُ فوق الخجل!. ولم يكن ليدع مناسبة تمر، دون أن يشير إلى هذا الداء العضال، الذي بُليت به فلسطين. ولشدّ ما صب نقمته على تلك العصبة الحقيرة، عصبة السماسرة، التي يقوم على يديها ضياع البلاد:

أمّا سماسرةُ البلاد فعصبةٌ عارٌ على أهل البلاد بقاؤها إبليسُ أعلن صاغراً إفلاسَهُ لما تَحقّقَ عنده إغراؤها يتنعّمون مُكرَّمين .. كأنما لنعيمهم عمَّ البلادَ شقاؤها هم أهلُ نجدتها .. وإن أنكرتَهم وهُمُ- وأنفُكَ راغمٌ- زعماؤهما ..

ولكم كانت تروعه تلك الحزبية التي يضطرم وقودها في البلاد، فلا ينتج منها إلا تفكك الأمة وشقاقها، وفي ذلك ما فيه من إعاقة السير نحو الهدف الواحد:

وطني، أخاف عليك قوماً أصبحوا يتساءلون: مَنِ الزعيمُ الأليقُ؟ لا تفتحوا بابَ الشقاقِ فإنهُ بابٌ على سُودِ الحوادثِ مُغلَق واللهِ لا يُرجى الخلاصُ وأمركم فوضى، وشملُ العاملين مُمزَّق

ولطالما نقد أصحاب الأحزاب في شعره وندد بهم، لا يخص فريقاً دون فريق، وإنما يوجه القول إليهم جميعاً: ما لكم بعضُكم يُمزّق بعضاً أفرغتم من العدو اللدودِ؟ اذهبوا في البلاد طولاً وعرضاً وانظروا ما لخصمكم من جهود .. والمسوا باليدين صَرحاً منيعاً .. شاد أركانَه بعزمٍ وطيد! كلُّ هذا استفاده بين فوضى وشقاقٍ، وذلّة، وهُجود .. واشتغالٍ بالترّهات، وحبِّ الذْ ذاتِ .. عن نافعٍ عميم مجيد شهد اللهُ أنّ تلك حياةٌ فُضِّلت فوقها حياةُ العبيد وما كان أنكأ لقلب إبراهيم من خمود العزائم في حاملي عبء القضية الوطنية ووقوفهم عند تقديم «البيانات» و «الاحتجاجات»، لا يتعدونها إلى غيرها من الأعمال المجدية، انظر إليه يخاطبهم متهكماً:

أنتمُ «المخلصون» للوطنيّه .. أنتمُ الحاملون عبءَ القضيّه .. أنتمُ العاملون من غير قولٍ .. بارك اللهُ في الزنود القويّه .. و «بيانٌ» منكم يعادل جيشاً بمعدّات زحفه الحربيّه .. و «اجتماعً» منكم يردّ علينا غابرَ المجدِ من فتوح أميّه .. ما جحدنا «أفضالكم» .. غيرَ أنا لم تزل في نفوسنا أمنيّه في يدينا بقيّةٌ من بلادٍ .. فاستريحوا كي لا تطيرَ البقيّه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير