أبو موسى , وما أدراك ما أبو موسى؛ حين تُنصِت في خشوع إلى روعة إعجاز القرآن , , وتتحسّس في كلام المقتدرين آياتِ البيان؛ وترى الكلامَ في سَمْتِه الأول , وتتفرّس ملامحَ النص وتدخل في خصائص تراكيبه و دلالاتها؛ وعجائب تصاويره و سماتها, وحين تسبر أغوارَ الشعر وتكتشف دقائقَه وتسلك مضائقه؛ وحين تعبر جسرًا يصلك بعقول العباقرة من علماء الأمة وأدبائها لتطّلعَ على منابع عبد القاهر؛ وكيف استَخرَجَ من علوم الأوائل الأواخرُ , وكيف صُنِعَتِ المعرفةُ على يد غنيٍ قادر ٍ, أغمض عينيه عن كل نظرٍ حاسر, وأصمَّ أذنيه عن كل حكمٍ عابر؛ ولم يغامر , أو يقامر , ولم يندب عند المصائب حظه العاثر , بل مضى يصنع معرفته , ويهب للقادمين من بني قومه موهبته , يقرّب البعيد , ويبشر بالمنهج الحق لكل جديد وتجديد ـ لا تملك إلا أن تُنصِت إلى أبي موسى وتتحسسَ ملامحَه وتتدسّسَ في خلجات نفسه , وتُرَاوِحَ بين جهره وهمسه , وتتفرّسَ ملامحَ منهجٍ لتجديد البلاغة وعلوم العربية , ونهضةِ الأمة من كبوتها , وقيامِها من عثرتها.
والمقام لا يكفي لتعداد مناقبه , ولا للكشف عن بعض ملكاته ومواهبه؛ ولكنّي سأقتصد لتلخيص بعض ملامح منهجه وسمات شخصيته العلمية في نظر فرعٍ يتصل بالشجرة, وهو إذْ أينع وأثمر؛ فإنما يصف من الشجرة ما يصل إليه منها, وهو وإن كان يصف جلّ خصائصها فإنه لا يحسن وصفها على ما هي عليه وإن كان منها قد غُذِي و إليها نُمِي؛ فقد امتدت ظلالها ,و اسّاقطت ثمارها , وتشاجرت أغصانُها , وعظم بنيانها.
مغارس الألفاظ:
فمن أهم ما بني عليه هذا البناء العظيم الالتفات إلى مغارس الألفاظ, ومنابع الأفكار , وكيف تستخرج الفكرة من الفكرة , وتتناسل الأفكار و تتكاثر ,وهي فكرة حيوية في تتبع مسائل العلم , وفي استشراف طرائق صناعة المعرفة؛ فهذان هما الركنان المهمّان في بناء العلوم:
فبهما تُرصَدُ الفكرة في أكثر من عقل توارد عليها , وهُدِي إليها , وتفاعل بها ومعها حتى أنشأها أو أنشأ مالم يكن فيها من قبل , وهذا نمط من التَّهَدِّي إلى الاتصال بالأفكار بوصفها كائناتٍ حية تولد وتنمو وتتكاثر , وتتأثر بالعوامل المحيطة , فالعلم لا ينفصل عن العالم , ومسائله لا تنفصل عن حياته , وحياة الفكرة جزء من حياة صاحبها , تتأثر بكل ما فيها من التفاصيل الدقيقة والمكونات العميقة؛ يعرف هذا من كابد التدسّس في عقول الرجال , والتغلغل في تفاصيل الفكرة والمسألة من مسائل العلم , وتتبعها في مراحل حركتها وسكونها , وحيويتها وركونها , وقرن ذلك بالتلطف في الإنصات لسير العظماء من العلماء والأمراء والشعراء والنبلاء.
وهذا المنحى أصيل في التراث العربي الإسلامي؛ ولذا لم تخل حقبة من حقب تاريخه من المؤلفات التي عنيت بتراجم العلماء وسير العظماء , كما لم تخل أيضا من مصادر تتبع مسائل العلم في كل فنّ , فقد كان الأوائل يدركون أن الرؤية المهيمنة على العلم لا يمكن أن تكون أقرب إلى النضج والكمال , مالم تحط بتاريخ العلوم وتاريخ الرجال.
وقد قامت أكثر دراسات شيخنا أبي موسى على هذين الركنين: فقد تتبع الفكرة البلاغية ومسائل هذا الفن في كتبٍ مثل: "خصائص التراكيب " و" دلالات التراكيب" و " التصوير البياني " , وشيء مما في كتابه: دراسة في البلاغة والشعر " وغيرها. وتتبع حركة عقول العلماء وأفذاذ الرجال في كتب من مثل: " الإعجاز البلاغي , دراسة تحليلية لتراث أهل العلم " و " مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني " , وكتاب " تقريب منهاج البلغاء لحازم القرطاجني" وبعض مباحث كتاب " دراسة في البلاغة والشعر ". وجمع بين الركنين في دراسات متعددة متنوعة من مثل: " البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية " و" شرح أحاديث من صحيح البخاري دراسة في سمت الكلام الأول " و " قراءة في الأدب القديم " ومباحث متعددة من كتبه التي سلف ذكرها.
¥