فهو يقول في أحد مؤلفاته، محاولًا تلبيس تلك القواعد العقلية الاعتزالية الغربية لباس الشرع: (ومن زاول علم أصول الفقه، وفقه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد؛ جزم بأن جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم؛ قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بُنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يُسمى عندنا بعلم أصول الفقه، يشبه ما يُسمى عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهي عبارة عن قواعد عقلية تحسينًا وتقبيحًا يؤسسون عليها أحكام المدنية.
وما نسميه العدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية، وما يتمسك به أهل الإسلام من محبة الدين والتولع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم القوة والمنعة يسمونه محبة الوطن) [المرشد الأمين، الطهطاوي، ص (36 - 37)].
وكان لتلك الدعوى آثارًا وتلاميذ يحملونها؛ ومنهم محمد عثمان جلال لترى موجة عاتية من موجات التغريب، فقد كانت أبرز آثاره الأدبية ترجمات لبعض المؤلفات الفرنسية ذات الشهرة؛ مثل: "بول وفرجيني"، و"خرافات لافونتين" وبعض "ملاهي موليير"، (والأمر الذي يجب التنويه به في عمله هذا ليس هو فكر الترجمة في ذاتها، بل الروح التجديدية التي تكمن وراءها، فقد ترجم "لافونتين" إلى شعر سهل لا تصنع فيه ولا رهق.
إلا أنه حين ترجم "ملاهي موليير" كتبها بلهجة العامة في مصر، ولم يكن الوقت قد حان بعد للإقدام عى مثل هذا العمل الجريء، غير أن ما تجلى في تلك الخطوة من انفكاك تام من أسر الماضي كان دليلًا على روح العصر، فقد قال الخديوي إسماعيل: "مصر أصبحت قطعة من أوروبا"؛ ولذا كان لابد للأدب المصري من أن يعبر عن استقلاله عن التقاليد الآسيوية والإفريقية) [دراسات في حضارة الإسلام، جب، ص (320 - 321)].
الطهطاوي والمرأة المسلمة:
وكعادة دعاة التغريب والانحلال تحت مسمى التنوير والحداثة، ينفثون سمومهم من أجل تحرير المرأة ليس من الظلم الذي يدعونه، ولكن من كل حياء إسلامي رفيع؛ ولذا فقد نالت المرأة من كتاباته الكثير، فقد عاد الطهطاوي من فرنسا ليقول بملء فيه: (إن السفور والاختلاط ليس داعيًا إلى الفساد) [تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الطهطاوي، ص (305)]، ويُبرر لدعوته ذلك بالاقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص، وضمَّن ذلك كتابين: (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز) وكتاب: (المرشد الأمين).
العوامل المؤثرة في تكوينه الفكري:
وعن هذا يخبرنا الأستاذ سالم مبارك في كتابه "اللغة العربية ... التحديات والمواجهة"، فيقول عن رفاعة الطهطاوي: (ذكيًّا نعم، نابهًا بين أقرانه نعم، محبًّا للعلم نعم، ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر ... غريرًا، طري العود، جاء من أقصى الصعيد حيث البؤس والضنك إلى قلب باريس بحدائقها وميادينها ومباهجها.
وتم تسليمه إلى أخطر مستشرق وأدهاهم، إنه البارون الفرنسي "سلفستر دي ساسي"، فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها، فتتألق معها مفاتن النساء، انتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضى في باريس 6 سنوات، تعلم فيها الفرنسية، ودرس التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة والآداب الفرنسية، وقرأ مؤلفات "فولتير"، و"جان جاك روسو"، و"مونتسكيو"، وتعلم فن العسكرية, والرياضيات.
كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال إلا أن تكون خطفًا، وأن يكون ما ألفه سطوًا على كتب، حتى مدرسة الألسن التي أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن درَّبوه هناك، وهذه المدرسة أحدثت صدعًا في ثقافة الأمة وقسمتها إلى شطرين: الأزهر في ناحية, ومدرسة الألسن في ناحية, والوظائف طبعًا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها المستشرقون) [اللغة العربية .. التحديات والمواجهة، سالم مبارك، ص (28) نقلًا عن في الطريق إلى ثقافتنا، محمود محمد شاكر ص (210 - 213)].
وفاته:
انزوى رفاعة الطهطاوي في آخر حياته عن الساحة، وترك مكان الصدارة الذي ظل يشغله طيلة خمسين سنة يترجم علوم وأفكار أوروبا والقوانين الوضعية ويرأس تحرير جريدة "الوقائع المصرية"، ويكتب المقالات ويؤلف الكتب ويقنن الأفكار، حتى وافته المنية في 1 ربيع الآخر سنة 1289هـ/1873م، بعد أن قام بالدور الأول في طمس معالم الحضارة الإسلامية وتحويلها لمسخ من الحضارة الغربية.
أهم المراجع:
1. الأعلام، الزركلي.
2. تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الطهطاوي.
3. المرشد الأمين، الطهطاوي.
4. دراسات في حضارة الإسلام، "جب".
5. أعلام وأقزام في ميزان الإسلام، العفاني.
6. في الطريق إلى ثقافتنا، محمود محمد شاكر.
7. اللغة العربية .. التحديات والمواجهة، سالم مبارك.
8. معجم المؤلفين، عمر كحالة.
9. مجلة التاريخ العربي.
10. الموسوعة الحرة على شبكة الإنترنت.
مقال للكاتب مصطفى كريم