وقد ألف الأستاذ محمد زكي عبد القادر كتابا لطيفا، يعد بمثابة استقراء لما قيل عن الحرية لدى مختلف الأمم والشعوب وعلى مدى عشرات القرون من الزمن. ويلخص المؤلف فكرة كتابه وثمرته بقوله في مقدمته:" وهذا الكتاب الذي أقدم له جمع أقوالا في الحرية والكرامة الإنسانية، اختيرت من مختلف اللغات في الشرق والغرب: من العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والإغريقية القديمة، واليونانية الحديثة، والإسبانية والإيطالية والألمانية، والأردية، والنرويجية، وعلى الجملة من عدد كبير من اللغات التي يتحدث بها البشر، ومن مختلف العصور. فيها أقول قيلت قبل الميلاد بألف سنة، وفيها أقوال قيلت منذ سنوات. وعلى طول ما يفصل بينها من الزمن لا تكاد تجد المعاني تغيرت، ولا حب الحرية والافتتان بها قل أو تحول. وفي هذا دليل على أن الحرية والكرامة الإنسانية ليستا شيئين ينموان بنمو الإنسان، ولكنهما شيئان ولدا معه وأحس بهما وكافح من أجلهما وأراق دمه في سبيلهما قد يتطور مدلولهما ويتقدم ويتسع، وقد يتخذ أشكالا متعددة، ولكنهما من حيث الجوهر باقيان خالدان."
وإذا كانت الحرية صفة فطرية من صميم خلقة الإنسان ومن صميم مؤهلاته الأولية، فمن الطبيعي أن يجعل الإسلام - وهو دين الفطرة - هذه الحقيقة أساسا مرجعيا في تشريعاته وأصوله التشريعية. ولتوضيح ذلك أعرض فيما بعض الأصول الإسلامية المترجمة لمبدأ أصالة الحرية.
الإباحة الأصلية:
من القضايا التي يتطرق إليها ويناقشها عامة الأصوليين قضية حكم الأفعال والأشياء قبل ورود الشرع، أي في حالة عدم وجود شرع, وكذلك حكم الأفعال والأشياء التي سكت عنها الشرع بعد وروده، فلم يخصها بحكم.
ويحكي الأصوليون في هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة، مع قول رابع يمكن إضافته وتمييزه عند التمحيص والتدقيق.
1. القول الأول لجمهور الأصوليين، وخاصة منهم الحنفية، وعامة الفقهاء. وهو قول الظاهرية ومفاده أن كل ما لم يرد فيه شرع، أو لم يخصه الشرع بحكم، فالأصل فيه أنه مباح. وهذا ما يقصدونه بعبارة "الأصل في الأشياء الإباحة" أو "الإباحة الأصلية".
2. القول الثاني، وهو لبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، ويرون أن الأصل في الأشياء هو الحظر والمنع، حتى يرد دليل الإباحة.
3. القول الثالث، وهو لكثير من الأصوليين المتكلمين، من معتزلة وأشاعرة، وهو القول بالوقف، باعتبار أن كلا من الإباحة والتحريم حكم شرعي وحيث لا دليل ولا خطاب من الشرع فلا حكم، أي لا تحريم ولا إباحة، وإنما نتوقف عن إصدار حكم في المسألة وفروعها التطبيقية.
4. أما القول الرابع، وهو قلما يذكر، فهو التفريق بين الأشياء النافعة، والأشياء الضارة. فالأصل في الأولى الإباحة، والأصل في الثانية التحريم. وبهذا قال الفخر الرازي، وتبعه بعض المتأخرين.
وأنا أريد أن أقف عند القولين الأول والثاني. فالأول مع الحرية وأنها هي الأصل، والثاني على العكس. أما القولان الآخران فيؤولان في النهاية إلى الوفاق العملي مع القول الأول.
فالقول بالوقف، هو مجرد امتناع من إصدار "حكم شرعي" بالإباحة أو الحظر. والنتيجة العملية أن الناس في هذه الحالة يبقى أمرهم بيدهم، فمن شاء أقدم ومن شاء أحجم. فالقول بالوقف لا يمكن أن يتحول إلى تحفظ وتعرض، وإلا التحق بالحظر والتحريم، وإذا ترك الناس لشأنهم فتلك هي الإباحة عمليا، وإن لم يصدر بشأنها "حكم شرعي". فأصحاب هذا القول يختلفون مع القول الأول نظريا لا عمليا، فهو خلاف كلامي ليس إلا.
وأما القول الرابع، فهو وإن كان فيه تدقيق وجيه وله سنده في نصوص الشرع، فهو بمثابة ذكر الاستثناء عند ذكر القاعدة. ذلك أن ما خلق الله تعالى من أشياء كله في الأصل مفيد ونافع، والضرر فيه عارض وشاذ. فإذا قررنا أن الأصل في المنافع الإباحة، فكأننا قررنا أن الأصل العام في الأشياء هو الإباحة، وهذا هو القول الأول. وإذا قررنا أن الأصل في المضار التحريم، فكأننا قررنا أن التحريم وارد على سبيل الاستثناء في الأشياء الضارة ضررا راجحا، وهي ذات نسبة ضئيلة بجانب ما في الكون والحياة من منافع وفوائد ومصالح.
وأعود للقول الأول لأوضحه وأوضح أهم مستنداته، وهو القول بأن الأصل العام في الأشياء والأفعال هو الإباحة، أي حرية التصرف.
يستند هذا القول إلى جملة من الآيات والأحاديث، فيما يلي بعضها.
¥