* قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) فهذه الآية تفيد أن جميع ما في الأرض قد خلق للمخاطبين n وهم بنو آدم n ليستعملوه وينتفعوا به، كما قال في الآية الأخرى (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) فالأرض مستقرنا وما فيها متاع لنا.
ولا يقف الأمر عند الأرض وما فيها، بل يتجاوزها إلى السماوات وما فيها (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)
- قوله عز وجل (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وهذا معناه أن ما حرمه الله تعالى هو ما ذكره ونص عليه وفصل القول فيه. ومعناه أيضا انتفاء التحريم عما سواه. وقد جمع ابن حزم مضمون هذه الآية مع مضمون الآية الأولى (خلق لكم ما في الأرض جميعا) وركب منهما نتيجة قاطعة بقوله: " فصح بهاتين الآيتين أن كل شيء في الأرض وكل عمل فمباح حلال إلا ما فصل الله تعالى تحريمه باسمه، نصا عليه في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ... ".
قال ابن حزم: " ثم زادنا تعالى بيانا فقال: (هَلُمشهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم)، فصح بنص هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حلال، لا يحل لأحد أن يشهد بتحريمه".
على أن كلام ابن حزم رحمه الله مع متانته وقوة منطقه n يحتاج إلى شيء من الاستدراك والتدقيق في بعض ألفاظه، وهو ما سأورده في ثنايا الفقرة التالية:
- استدل القائلون بالإباحة الأصلية كذلك بعدة آيات نصت على إباحة الطيبات وما خلقه الله من زينة ورزق، وتنكر على من حرموا ما خلق الله لعباده، كما تنص بعض هذه الآيات n وهو محل الاستدراك على كلام ابن حزم n على تحريم ما كان خبيثا. قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون)، (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)، (اليوم أحل لكم الطيبات).
فكل هذه النصوص تفيد صراحة وقطعا أن كل ما كان زينة وطيبا، فحكمه الأصلي هو الحل والإباحة، ولا يتعلق به التحريم إلا عرضا ولأسباب عرضية ليست ذاتية.
ومقابل هذا، فإن ما كان خبيثا فحكمه الأصلي هو التحريم، سواء كان مما فصل الله تعالى ومما ذكره باسم، أو لم يكن كذلك وعرفناه بصفته (الخبث). فهذا هو الاستدراك الذي لابد منه على كلام ابن حزم المتقدم، حيث يلح أن الحرام هو فقط ما ذكر الله تحريمه بالاسم. والحق أن الله تعالى حرم أشياء بصفتها، فمتى ثبتت تلك الصفة (الخبث والضرر) ثبت التحريم. ونبقى معه في أن كل ما لم يتصف بالخبث فحكمه الإباحة وحرية الاستعمال والتصرف.
من تطبيقات القاعدة وآثارها:
قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة "، تعني أن الإنسان حر مسموح له بالتصرف في نفسه وفيما يزدحم به هذا الكون من خيرات وكائنات ومنافع وإمكانات. فهذا هو الأصل المعتمد حتى يأتي استثناء شيء ممن له الأهلية وله الحق في ذلك، أو حتى يظهر فساد شيء ويثبت خبثه وضرره.
وهذه القاعدة قبل أن تحرر الإنسان في سلوكه وتصرفه، تحرره في إيمانه وضميره. فهو بفضلها يعلم ويطمئن أن ما لم يرد فيه تحريم ولا تقييد، وكان له فيه رغبة ومصلحة فهو له، ولا حرج فيه ولا خوف منه، وأن تصرفه ذلك حلال سائغ، فضلا من الله ونعمة.
ومن هنا ندرك ذلك السر والخيط الرابط بين تحليل الطيبات وتحريم الخبائث من جهة، وإزالة الأغلال والآصار من جهة ثانية. وأعني بذلك ما ذكره الله في صفات رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).
فالمؤمن إذا أصبح شاكا خائفا من شبح التحريم والإثم حيثما فكر وقدر، وكلما هم وعزم، وأينما تحرك واتجه، لمجرد أن كل ما ليس منصوصا على إباحته فهو حرام، أو يحتمل أن يكون حراما، أو قيل أنه حرام، أو فيه شبهة الحرام ... هذا المؤمن قد يدخل في أزمة إيمان وضمير، قبل أن يدخل في أزمة تصرف وتدبير.
¥