تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

((واللهِ ما سببتُ له أمّاً ولا جداً ولا خالاً، فالأمّ أمُّ الدِّماغِ، والجدُّ الحظُ، والخالُ الأكمةُ الصغيرة)) ([46]).

الموقف الآخر: ليس فردياً وإنما يعود إلى تواضع الجماعة اللغويّة أو المجتمع بشكل عام، فاللغة بوصفها ظاهرةً اجتماعيةً تخضع الفردَ لِمَا ترسمه فالدوافع النفسيةُ أو العاطفيةُ التي تفرضُ على الجماعةِ اللغوية نهجاً محدداً في التعبير ليس للفرد إلا محاكاتُها واتباعُها، وذلك ينطبق على جُلِّ الدوافع التي تعود إلى الحياة الاجتماعية كالكياسة والتأدبِ والخوفِ والتطيرِ والتفاؤلِ والتشاؤمِ ونحوها من الدوافع التي تلجأ الجماعة اللغويةُ إلى التَّلَطُف بشأنها بعباراتٍ كريمةٍ وألفاظٍ نبيلةٍ، وقد مرّ معنا أنَّ العربَ مثلاً يعيبون على الرجل إذا كان يكاشفُ ويصرحُ فيما حَقُهُ السترُ والتحرزُ والأدبُ.

والأسباب الاجتماعية واضحةٌ جداً في مراعاة التَّلَطُف في مثل هذا الموقفِ، ولكنَّ الحالةَ الاجتماعية تختلفُ من أمّةٍ إلى أمةٍ، ومن بيئة إلى بيئة، ومن جيلِ إلى جيلٍ، فلعل ما يدعو إلى التَّلَطُف عند أمّةٍ لايدعو إليه عند أمّةٍ أخرى، ولا أدَلَ على ذلك إلا ما سبق وأشرنا إليه من أنّ اللاتين مثلاً يعبرون عن العورات والأمور المستهجنة بعبارات صريحة مكشوفة على حين أنَّ العرب تتلمس أحسنَ الحيل وأدناها إلى الحشمةِ والتأدب في التعبير عن هذه الأمورِ بأسلوبٍ ألطفَ وأحسنَ ([47]).

وهذا الموقف هو الذى دفع كلاًّ من الثعالبيِّ والجرجانيِّ إلى إفراد هذه الظاهرة بالتأليفِ. يقول الثعالبيِّ عن كتابه:

((هذا كتابٌ، خفيفُ الحجمِ، ثَقِيلُ الوزنِ، صَغيرُ الجرمِ، كَثيرُ الغُنْمِ، في الكنايات عمَّا يُستهجنُ ذكرُه، ويستقبحُ نشرُه، أو يستحيا من تسميته، أو يُتطيرُ منه، أو يسترفعُ ويُصانُ عَنْهُ، بألفاظِ مقبولةٍ تؤدي المعنى، وتفصح عن المغزى، وتحسن القبيحَ، وتلطف الكثيفَ ... )) ([48]).

ويقول الجرجانيُّ عن كتابه أيضاً:

((فمن فوائده التحرزُ عن ذكرِ الفواحشِ السخيفة بالكنايات اللطيفة، وإبدال ما يَفْحُشُ ذِكْرُه في الأسماع، بما لاتنبو عنه الطباعُ، .. ومنها تركُ اللفظِ المتطير به إلى ماهو أجملُ منه ... ومنها الأمورُ الجاريةُ بين البلغاءِ والأدباءِ ومداعباتهم بمعاريضَ لايفطن لها إلا البلغاءُ ... ومنها التوسعُ في اللغاتِ، والتفنِنُ في الألفاظِ والعبارات .. )) ([49]).

أمَّا المَعِينُ الذي نهلا منه مادَة كتابيهما فهو القرآن الكريمُ، وأخبارُ الرسول (( e)) وكلامُ العربِ من قلائد الشعراءِ، ونصوصِ البلغاءِ، وملح الظرفاءِ في أنواع النثر والنظم ([50]).

وبالتأمل في أبوابِ الكتابين نلحظ أنَّ أبوابَ الثعالبي في كتابه (الكنايةِ والتعريض) أشملُ للدوافعِ النفسيةِ والعاطفية التى تدفع المتكلمين إلى التَّلَطُف، ففي حين قصر الجرجانيُّ معظمَ أبوابه على العلاقة بين الرجل والمرأة -الألفاظ الجنسية- وما يتصل بها، نجد الثعالبيَّ يضيفُ أبواباً جديدة تتعلق ببعض العاداتِ والعقائدِ العربيةِ كالتفاؤلِ والتشاؤمِ والعيوب الخَلْقِيةِ والخُلُقِيةِ وما يتصل بها.

ومن أمثلة الكتابين ما يلي:

يقول الثعالبيُّ: ((العربُ تكنى عن المرأة بالنعجة والشاةِ والقلوص والسرحة والحرثِ والفراشِ والعتبةِ والقارورةِ ... وبكلها جاءت الأخبارُ ونطقت الأشعارُ ... )) ([51]) ثم يأتي بشواهد على ذلك من النثر والشعرِ وأحياناً من القرآن الكريم. ويختمُ كلامه حول هذه الكناياتِ الخاصةِ بالمرأة بقوله ([52]): ((وإنما تقع مثلُ هذه الكنايةِ ممّن لايجسرون على تسميتها أو يتذممون من التصريح بها)).

وفي الكناية عمّا يجرى بين الرجالِ والنساء من الشهوةِ والتماسِ اللذة، يقول ([53]): ((ولا أحسنَ ولا أجملَ ولا ألطفَ من كنايةِ اللهِ تعالى عن ذلك بقوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ([54]) وقولِهِ عزوجل: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} ([55]) وقولِهِ تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ([56]) وقوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوْهُنَّ وابْتَغُوا مَاكَتَبَ اللهُ لَكُمْ} ([57]) وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ([58]) وقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} ([59]).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير