تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالحديث، وأكثرهم إنكاراً على مخالفيه (22)، ومنهم ابن مالك صاحب التسهيل لاحتجاجه بالحديث الشريف.

إن إشادة السيوطي بابن مالك ثم إيراده ما يوهّن رأيه في موضعين مختلفين يمكن وصفه بالتناقض. وإذا لم يكن هذا الوصف دقيقاً فإن هناك –على أقل تقدير –تبايناً في الموقف النظري للسيوطي، مفاده الوعي اللغوي السليم في أثناء تعبيره عن الاحتجاج بالقرآن، وضيق أفقه اللغوي في أثناء تعبيره عن الاحتجاج بالحديث الشريف. ذلك لأن حجتي المانعين مردودتان، وهما رواية الأحاديث بالمعنى وتسرب اللحن إلى بعضها لأن كثيراً من رواتها كانوا غير عرب. أما كون رواية الأحاديث بالمعنى جائزة فمعناه "أن ذلك احتمال عقلي فحسب لا يقين بالوقوع. وعلى فرض وقوعه فالمغيّر لفظاً بلفظ في معناه عربي مطبوع يحتج بكلامه في اللغة" (23). والأصل أن يروى الحديث باللفظ، وهذا ما جرى عليه علماء الحديث، "حتى إذا شك راو عربي بين (على وجوههم) وعلى (مناخرهم) أثبتوا شكه ودوّنوه مبالغة في التحري والدقة" (24). وأما وقوع اللحن في بعض الأحاديث فهو "قليل جداً لا يُبنى عليه حكم. وقد تنبه إليه الناس وتحاموه ولم يحتج به أحد، ولا يصح أن يُمنع من أجله الاحتجاج بهذا الفيض الزاخر من الحديث الصحيح" (25)، إضافة إلى أن علماء الحديث "تشددوا في أخذ الناس بضبط ألفاظ الحديث، حتى إذا لحن فيه شاد أو عامي أقاموا عليه النكير" (26). ثم إن السيوطي وافق أبا حيان على أنه لم ير أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك طريق ابن مالك في الاستدلال على القواعد الكلية بما ورد في الحديث الشريف. وهذا الأمر مردود أيضاً بكثرة المتقدمين والمتأخرين الذين احتجوا بالحديث الشريف، كالأزهري في التهذيب، والجوهري في الصحاح، وابن سيده في المخصص، وابن فارس في المجمل ومقاييس اللغة، والزمخشري في الفائق، وغير هؤلاء كثير.

لا يمكن وصف رأي السيوطي في الاحتجاج بالحديث الشريف بشيء غير المغالاة والجمود. فقد ضيّق واسعاً، وعاف المرونة وهو المتأخر الذي توافرت له الأحاديث الصحاح في مظانها الأساسية. بل انه اصطنع مصطلحات علم الحديث في كتاب المزهر، وسعى إلى تطبيقها على كلام العرب، فكثرت لديه مصطلحات الجرح والتعديل والرواية والدراية، من غير أن يلتفت إلى أنها اصطُنعت أساساً للتأكد من أن الرسول الكريم نطق الأحاديث على هذا النحو دون غيره.

ثم إن السيوطي خص الاحتجاج بكلام العرب شعره ونثره بقدر من الاهتمام يفوق ما خصصه للحديث الشريف، فنقل آراء سابقيه في السماع والقياس، والقواعد التي اتفقوا عليها. ويمكن وصف موقفه في الاحتجاج بكلام العرب بالوضوح والتحديد وباتباع ما استقر عليه النحاة واللغويون معاً. إذ غلّب الاحتجاج بالشعر على الاحتجاج بالنثر، ولم تكن لديه مساواة بينهما. كما عُني بمحاكاة الفقهاء في حديثه عن اللغة والنحو، فصنفهم في طبقات، ووضع للنحو أصولاً تشبه أصول الفقه، وجاراهم في بناء القواعد على السماع والقياس والإجماع (27). ففي المزهر أنواع للمرسل والمنقطع (28)، ومعرفة طرق الأخذ والتحمل (29)، والضعيف والمنكر والمتروك (30). بل إنه عدّ كتاب " الاقتراح" بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه" (31)، ونص على أنه سلك في تصنيفه كتاب الأشباه والنظائر في النحو "سبيل الفقه" (32). وهذا ما جعل موقفه من الاحتجاج بكلام العرب محاكاة لمواقف اللغويين والنحاة العرب، ولكنها محاكاة العالِم بأصولها وفروعها وإن لم تستطع التحرر من سلبيات هذه المحاكاة وخصوصاً تكرار الأمثلة والشواهد القديمة من غير تمحيص، وإهمال الاحتجاج بالحديث الشريف، ومنح الضرورات الشعرية مكانة لا تستحقها.

أخلص من الحديث السابق إلى أن موقف السيوطي النظري من الأغلاط اللغوية ليس واحداً، بل هو مواقف ثلاثة: موقف ينم على وعي لغوي، وثان ينم على قصور في الوعي، وثالث ينم على المحاكاة. وأعتقد أن تباين المواقف الثلاثة يدل على أن السيوطي لم يكن معياراً نظرياً ثابتاً للصواب، بل كان يترجح في ثلاثة معايير كانت سائدة لدى سابقيه. وإذا كان اللغويون والنحاة الأوائل يترجحون في معاييرهم فلأنهم رواد مجتهدون رغبوا في إقامة صرح اللغة والنحو على أسس رأوها سليمة استناداً إلى النصوص التي توافرت لهم، وهي قليلة تبعاً لاستقرائهم الناقص. أما ترجح السيوطي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير