تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مختلفة.

والدليل على أنه لا يملك معيار للصواب هو استعماله معيارين متباينين، أولهما معيار ابن جني، وهو معيار يستند إلى القاعدة الصرفية الخاصة بصيغة منتهى الجموع. ولهذه القاعدة أوزان، منها وزن "مفاعل" الذي نجمع عليه الكلمات المبدوءة بميم زائدة. وتنص هذه القاعدة (52) على أنه إذا كان الحرف الثالث من الكلمة حرف مد منقلباً عن أصل، كما هي حال كلمة مصيبة، رددناه إلى أصله فقلنا بالنسبة إلى مصيبة "مُصَاوِب" لأن أصل الياء فيها واو، ولا يجوز قلب حرف المد همزة لأنه غير زائد. القياس إذن هو المعيار الصرفي الذي استند إليه ابن جني في تخطئة (مصائب)، وحين وافقه السيوطي على تخطئة (مصائب)، عبّر عن تشبثه بالمعيار نفسه.

ثاني المعيارين هو معيار الجوهري. فقد حكم السيوطي على (مصائب) بالصواب نقلاً عن الصحاح للجوهري وهو في حكمه الجديد استند إلى معيار آخر مفاده أن اجتماع العرب حجة (53). واجتماع العرب يعني (السماع)، والسماع أقوى من القياس وسابق عليه كما قرر السيوطي نفسه في الاقتراح والمزهر (54).

استعمل السيوطي معياري السماع والقياس في الحكم على (مصائب)، وهما معياران متناقضان بالنسبة إلى هذه الكلمة، لأنها مطردة في الاستعمال شاذة في القياس (55). وهذا يدل على ازدواجية المعيار لديه، كما يدل على أنه لا يملك تطبيقاً. ويمكنني تعزيز هذه الدلالة بالقول إن موقف السيوطي من كلمة (مصائب) يذكرنا بحماسته للاحتجاج بقراءات القرآن الكريم كلها.

فقد "تواترت القراءة عن نافع المدني وابن عامر الدمشقي، وهما إمامان عظيمان من أئمة القراء، في قوله تعالى:) وجعلنا لكم فيها معائش (بالهمز، وهي غير قراءة الجمهور (56). ولكنها قراءة تدل على أن وزن (فعائل) في صيغة منتهى الجموع ليس مقصوراً على المفرد الذي يضم حرف علة زائداً، بل يشمل معاملة الحرف الأصلي معاملة الزائد إذا كان شبيهاً به في اللفظ (57). وقد تواتر السماع عن العرب بالنسبة إلى لفظتي (مصائب ومنائر)، وهما مثل (معائش) في أن همزتها منقلبة عن حرف أصلي. ولو كان للسيوطي موقف تطبيقي لاحتج بقراءة نافع وابن عامر على صحة معائش ومصائب ومنائر، ولكنه –كما هو واضح –نسي ما كان قرره من ضرورة الاحتجاج بقراءات القرآن كلها حين حكم على (مصائب) بالغلط وهي مثل (منائر ومعاش).

قل الأمر نفسه بالنسبة إلى (حلأتُ السّويق ورثأتُ زوجي واستلأمتُ الحجر ولبّأتُ بالحج). فقد حكم السيوطي على هذه الألفاظ بالغلط (85) نقلاً عن ابن جني. ثم حكم عليها في مكان آخر بالصواب (59) نقلاً عن الصحاح للجوهري. وهذا تعزيز آخر لازدواجية المعيار لدى السيوطي، وهو تعزيز يرسخ القول بافتقار السيوطي إلى موقف تطبيقي من الأغلاط اللغوية. ولئلا يعتقد أحد أن حكمي على السيوطي نابع من الأمثلة السابقة وحدها فإنني سأذكر مثالاً آخر من النثر يقود إلى الدلالة نفسها.

فقد قصر السيوطي النوع الثاني عشر من أنواع كتاب المزهر على معرفة المطرد والشاذ، وافتتحه ينص من كتاب الخصائص لابن جني (60) يضم الأنواع الأربعة للمطرد والشاذ. وكرر النص نفسه في الاقتراح (61) وفي الأشباه والنظائر في النحو (62)، ملتزماً بالأمثلة التي ساقها ابن جني، ومنها فعلاً (يذر) و (يدع) المذكوران في النوع الثاني المطرد في القياس الشاذ في الاستعمال. وقد منع ابن جني استعمال الماضي من هذين الفعلين لأن العرب لم تستعملها (63). ولم يعلق السيوطي على هذا الأمر بشيء، وهذا يشير إلى موافقته على تخطئة ماضي يذر ويدع استناداً إلى معيار السّماع. ولكن العرب، كما يقول الأستاذ سعيد الأفغاني (64)، استعملت (وذر) و (ودع). فقد قرأ عروة بن الزبير وابنه هشام الآية الكريمة) ما وَدَعَك ربك وما قلى (بالتخفيف. وورد فعل (ودع) في حديثين شريفين هما (لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات) و (إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره). كما ورد فعل (ودع) في بيت شعر منسوب لأبي الأسود الدّؤلي، هو:

ليت شعري عن خليلي ما الذي * غاله في الحب حتى ودعه

وفي بيت شعر آخر لشاعر مجهول:

وثم ودعنا آل عمرو وعامر * فرائس أطراف المثقفة السمر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير