تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وورد الفعل أيضاً في المصباح المنير للفيومي (ودعته أدعه وَدْعاً: تركته). وهذا يعني أن السيوط نقل كلام ابن جني من غير أن ينعم النظر فيه. كما يعني ذلك أن عِلم السيوطي بالعربية لا يرقى إلى المرتبة التي ادعاها لنفسه.

ويقودنا ذلك إلى أن السيوطي لا يملك موقفاً تطبيقياً من الأغلاط اللغوية لأنه يفتقر إلى معيار يستند إليه في تصويب النثر وتخطئته، وإلى المعرفة اللغوية التي تعينه على ذلك. وما من شك في أن توافر هذين الأمرين يجعله ذا رأي، ويحجب عن كتبه تباين الآراء وتناقضها.

وقد يبدو موقف السيوطي من الاحتجاج بالشعر العربي مختلفاً أوّل وهلة، ولكن فحص هذا الموقف يقود الباحث إلى النتيجة السابقة نفسها. ذلك أن الشعر الذي احتج به سابقوه على الشيء نفسه. والأبيات التي خطّأ شيئاً فيها هي الأبيات التي خطّأها سابقوه. وهذه أبيات أربعة توضح موقف السيوطي من الاحتجاج بالشعر العربي:

ألم يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لبون بني زياد

نقل السيوطي (65) هذا البيت من كتاب "الصاحبي في فقه اللغة" لابن فارس (66) على أنه غلط أبته العربية، من غير أن يوضح موضع الشاهد فيه.

سيغنيني الذي أغناك عني * فلا فقر يدوم ولا غناء

لم يكتف السيوطي بنقل هذا البيت من كتاب (المقصور والمدود) لأبي علي القالي، بل نقل معه ما ذكره أبو بكر الأنباري عن البيت، وما ساقه القالي من تعليق على كلام الأنباري، قال: "أخبرني أبو بكر الأنباري قال: أنشد بعض الناس قول الشاعر:

سيغنيني الذي أغناك عني * فلا فقر يدوم ولا غَناء

(بفتح الغين)، وقال: الغَناء: الاستغناء، ممدود، وقوله عندنا غلط من وجهين. وذلك أنه لم يروه أحد من الأئمة بفتح الغين، والشعر سبيله أن يحكى عن الأئمة كما تحكى اللغة. ولا تبطل رواية الأئمة بالتظنّي والحدس. والحجة الأخرى أن الغَناء على معنى الغنى، فهذا يبين لك غلط هذا المتقحم على خلاف الأئمة" (67).

وإنني حيثما يسري الهوى بصري * من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور

نقل السيوطي (68) هذا البيت من كتاب الخصائص لابن جني (96) على أنه شاهد على "أنك متى أشبعت ومطلت الحركة أنشأت بعدها حرفاً من جنسها" (70)

أردت لكيما أن تطير بِقرْبَتي * فتتركها شنّاً ببيداءَ بلقعِ

نقل السيوطي (71) هذا البيت من كتاب التعليقة لابن النحاس على أنه شاهد ساقه الكوفيون على جواز إظهار (أنْ) بعد (كي) (72). وذكر السيوطي تخطئة ابن الأنباري (73) هذا البيت لأن قائله مجهول غير معروف.

هذه أربعة أبيات حكم السيوطي بتخطئتها، ولكن حكمه يحتاج إلى مناقشة. فقول قيس بن زهر العبسي (ألم يأتيك) غلط كما ذكر السيوطي نقلاً عن ابن فارس، ولا يصح أن يحتج به على الفعل يُرفع بعد (لم). ولكن الغلط لا يرجع إلى مجافاة البيت سنن العربية، بل يرجع إلى أنه ضرورة شعرية ارتكبها الشاعر حين كان الشعر يُرتجل (74). والفرق بين الخروج على سنن العربية والضرورة الشعرية كبير، ولكن النحاة الكوفيين اتخذوا من البيت حجة للدلالة على إشباع الحركات. أي أنهم أرادوا أن يثبتوا قاعدة نحوية فالتمسوا لها من الشعر العربي شاهداً هو بيت قيس. ولا حاجة إلى بذل الجهد في تعليل (ألم يأتيك) كما فعل محمد محيي الدين عبد الحميد في أثناء تعليقه على البيت (75).

فالأمر لا يخرج عن أن الضرورة الشعرية القبيحة دفعت قيساً إلى إبقاء الياء وعدم حذفها بعد (لم). وهذا يعني أن السيوطي نقل تعليل ابن فارس من غير أن يدرك الفرق بين الضرورة الشعرية وما يلجأ إليه الشاعر اختياراً.

أما البيت الثاني (سيغنيني ... ولا غناء) فقد ذكره السيوطي في المزهر على أن (غَناء) بفتح الغين شاهد على تحريف الرواة رواية الشعر. والمتهم بتحريف الرواية هنا هو أبو بكر الأنباري، وقوله: "الغَناء: الاستغناء، ممدود" غلط في رأي القالي، لأن أحداً من الأئمة لم يروه بفتح الغين، ولأن "الغَناء على معنى الغِنى" غلط أيضاً، ولكن السيوطي ذكر البيت نفسه في الاقتراح (76) دليلاً على اختلاف الرواية. فالكوفيون احتجوا به على جواز مد المقصور (غنى –غِناء بكسر الغين). وأبطل البصريون حجة الكوفيين بقولهم إن رواية البيت بفتح الغين، ولفظه "غناء" ممدودة. ومهما يكن الأمر فإن السيوطي قدّم رأيين متناقضين يستندان إلى معيارين مختلفين، فدل بذلك على أنه لا يملك موقفاً تطبيقياً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير