ثم يروي أبي سعد أن عمر خرج ليلة أخرى يعسّ فإذا هو بنسوة يتحدثن فإذا هن يقلن:" أي أهل المدينة أصبح؟ فقالت امرأة منهن " أبو ذئب فلما أصبح سأل عنه فإذا هو من بني سليم فنظر إليه عمر فإذا هو من أجمل الناس فقال له: " أنت والله ذئبهن – مرتين أو ثلاثاً، والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها ".
قال أبو ذئب:" فإن كنت لابد مسيّّري فسيرني حيث سيرت ابن عمي – يعني نصر بن الحجاج السلمي – فأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة.
ويعلق السرخسي على هذا بقوله:" إن عمر فعل ذلك بطريق المصلحة لا بطريق الحد أوالعقاب، وقال: (والجمال لا يوجب النفي ولكن فعل ذلك للمصلحة ().) أي لمصلحة الجماعة، ومثل ذلك قصة جعدة السلمي الذي كان في زمن عمر، وكان غزلاً صاحب نساء يحدثهن ويضحكهن ويمازحهن، فكن يجتمعن عنده فيأخذ المرأة فيعقلها ثم يأمرها أن تمشي فتعثر فتقع فتنكشف فيتضاحكن من ذلك فبلغ ذلك بقيلة الأشجعي وكان غازياً في زمن عمر، فكتب إليه: -
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ....... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله إنّا ....... شغلنا عنكم زمن الحصار
لِمَنْ قلص تركن معقلات ..... قفا سَلعٌ بمختلف الشجار
قلائص من بني كعب بن عمرو ..... وأسلم أو جهينة أو غفار
يعقلهن أبيض شيظمي ............ وبئس معقّل الذود الخيار
فقال عمر: عليّ بجعدة بن سليم، فأتى به قال فكان سعيد ابن المسيب يقول: إني لفي الأغيلمة الذين جرُّوا جعدة إلى عمر فلما رآه قال: أشهد إنك شيظمي كما وصف، فضربه ونفاه إلى عمان.
ووافق الدكتور عبد العزيز عامر على ذلك حين قال:وإذا افترضنا أن نصر ابن حجاج لم يكن منه ما يستوجب تأديبه وأن فعل عمر كان لمجرد تطهير مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من دواعي فتنة النساء بنفي نصر مع أنه لم يرتكب جرما حتى لايفتتن به أحد فإن عمر يكون قد قصد بذلك حماية مصلحة عامة وغلب هذه المصلحة على مصلحة نصر الذي لم يرتكب جرما ولم يكن له ذنب في افتتان النساء به والمصلحة العامة فوق كل اعتبار وقد راعى عمر أن لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ودار هجرته وضعا خاصا بين سائر البلدان بحيث يجب أن تبرأ من دواعي الفتن والفساد، ولاشك أن فتنة النساء من أعظم الفتن التي يمكن أن تصيب مجتمعا ما وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وقال (والنساء حبائل الشيطان.
وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتبار الخاص للمدينة حين نفى المخنثين منها، ونستفيد من هذه الحادثة وجوب مراعاة حرمة المدينة المنورة وأنها ليست كغيرها من البلدان ووجوب تطهيرها من المنكرات وما يؤدي إلى المنكرات وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لعن كل من أحدث فيها حدثا فقد روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المدينة حرم من كذا إلى كذا لايقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال ابن حجر رحمه الله وزاد عاصم عند أبي عوانة (أو آوى محدثا
وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصما لم يسمعها من أنس قوله (فعليه لعنة الله) فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل أو هو أعم من ذلك.
قال عياض رحمه الله:واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله قال والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر
وعن علي رضي الله عنه قال:ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم مابين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل.
قوله (من أحدث فيها حدثا) يقيد به مطلق ماتقدم في رواية قيس ابن عباد وأن ذلك يختص بالمدينة لفضلها وشرفها، قوله (لايقبل منه صرف ولا عدل) بفتح أولهما واختلف في تفسيرهما، فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة رواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس وعن الأصمعي الصرف:التوبة، والعدل:الفدية.
¥