ويروى عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه دخل على المهدي فقال له أوصني فقال: (أوصيك بتقوى الله والعطف على أهل بلد رسول الله صلي الله عليه وسلم وجيرانه فإنه بلغنا أنه قال " المدينة مهاجري ومنها مبعثي وبها قبري وأهلها جيراني وحقيق على أمتي حفظ جيراني فمن حفظهم كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال
وعن معقل بن يسار مرفوعا مقيداً: (حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر) قال الشيخ خاطر: (وللحديث شواهد فهو حسن بشواهده، وهناك الوعيد لمن لم يكرم أهلها، فإكرامهم وحفظهم حق على الأمة قال بعضهم وليس المراد إكرام أهل النعم منهم والمستورين بالآداب فإن حالة أولئك تقضي بإكرامهم وإنما الكلام في إكرام المبتلى منهم ومن عدم الأدب والفضيلة وألبسته الفاقة رداء المذلة، وكان يقال: إذا أقبلت الدنيا على قوم ألبستهم محاسن غيرهم وإذا أدبرت عن قوم سلبتهم محاسن أنفسهم.
وقال صلى الله عليه وسلم (من أخاف أهل المدينة فقد أخاف مابين هذين) وأشار إلى مابين جنبيه.
قال كبريت:
أيا ساكني أكناف طيبة حسبكم ...... من السعي للعلياء جيرة أحمد
فمن يبتغي عنها بلادا وإن سمت .... لأمر من الدنيا فليس بمهتدي.
وقال في المواهب اللدنية روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أي ينضم ويلتجأ مع أنها أصل في انتشاره فكل مؤ من له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان لحبه صلي الله عليه وسلم في ساكنيها فأكرم بساكنها،ولو قيل فيهم ما قيل فقد حظوا بشرف المجاورة وثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم فلا يسلب عنهم اسم الجار وقد عم عليه الصلاة والسلام بقوله (مازال جبريل يوصيني بالجار) ولم يخص جارا دون جار،وكل ما احتج به محتج من رمي بعض عوامهم بالابتداع وترك الإتباع فإنه إذا ثبت ذلك في شخص منهم فلا يترك إكرامه ولا ينتقص احترامه،فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار،ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح له بهذا القرب الصوري قرب المعنى.
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: (ينبغي أن ينظر إلى أهل المدينة بعين التعظيم ورعاية التكريم ولا يبحث عن بواطنهم ولا عن ظواهرهم لقوله تعالى (ولا تجسسوا) ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، لأن الذنوب ماعدا الشرك تحت مشيئته يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ولا يطلع أحد على تعلق إرادته عز وزجل فيحبهم لجواره كيفما كانوا أي على ارتكاب الذنوب الصغائر والكبائر، فإن عظم الإساءة ولو في الدار لا يسلب حرمة الجوار:
وأحبها وأحب منزلها الذي ... نزلت به وأحب أهل المنزل
وصرف ما يتصدق به إلى أهل المدينة أولى على أي حالة كانوا وذلك لأن شرف الجوار الثابت لهم أوجب الإعراض عن مساوئهم،والنظر إلى حرمتهم،وما تشرفوا به من ذلك الجوار الأعظم، ولذلك كثر في الأحاديث الصحيحة الدعاء منه صلى الله عليه وسلم لهم بالبركة وعلى من قصدهم بسوء بأقبح النكال، ثم قال: (وقد استوفيت طرفا من ذلك في كتابي الزواجر عن اقتراف الكبائر.
سادساً:- رعاية الضعفاء بالمدينة المنورة
لقد حث الإسلام على رعاية الضعفاء عموماً ويزداد الأمر تأكيداً إن كانوا من ضعفاء المدينة المنورة لكثرة الوصية برعاية أهلها ولأنهم جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {ولا يأتل ألوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ... الآية.
قال القرطبي رحمه الله: (المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين وهو مسطَح ابن أثاثة ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف.
وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح مقال حلف أبو بكر إلا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبداً فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ومر على يمينه فنزلت الآية.
¥