تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

، وعليه فلا نجد من حجّة تسوّغ التأصيل لقصيدة النثر ابتداءً من لحظة أوسيان في الشعر الإنكلوسكسونيّ، وكذلك الحال مع جميع الشعراء اللاحقين عليه الذين استعملوا بعض الخصائص النثريّة في قصائدهم، أو الناثرين الذين تسلّلت إلى نصوصهم بعض الإيقاعات الشعريّة، فهم إنّما فعلوا ذلك بصورة لا إراديّة و " عفو الخاطر وبشكل بعيد عن الصفة لأنّه لم يكن هدفهم الأساسيّ ولذلك مضت كتاباتهم ( ... ) دون أن تثير اهتمام النقّاد والدارسين " ().

وبغية التعرّف على الصورة الأكثر واقعيّة في الإسهام الإنكليزيّ للتأسيس لقصيدة النثر، وملامحها التأريخيّة، لابدّ من الوقوف عند المحاولات الجادّة للشاعر الإنكليزيّ (توماس ديكوينسي 1785 – 1859) الذي يقول عنه الكاتب الامريكي (باو A. C. Baugh) : " وصل ديكوينسي بخيالاته إلى أقصى حدود اللغة حيث قصيدة النثر تستولي على مملكة الموسيقى" ().

في حين نجد ناقداً آخر هو (بيركنز Perkins ) يقول عنه: " إنه أكثر من أيّ كاتب آخر أسّس الأنموذج المثاليّ لقصيدة النثر " ().

أما (داوسون W. J. Dowson ) فقد كتب عنه دراسة جاء فيها: " كان شاعراً بطبيعته وغريزته، وأعني بذلك أنّ إدراكه للأشياء كان شعريّاً في الأساس: في الواقع ثمة مقاطع في " الاعترافات " رائعة الايقاع بحيث يمكن وصفها بالقصيدة الغنائيّة وأنّها تقدّم المتعة الجماليّة الخاصّة بالشعر العظيم " ().

إنّ هذا الشاعر الانكليزيّ، يمثّل لحظة خاصّة ولافتة في تأريخ الشعر الاوربيّ الحديث. فقد أصدر كتاباً غريباً بعنوان " اعترافات انكليزيّ مدمن على الأفيون " عام 1822. مشتملاً على وصف لرؤاه تحت تأثير الافيون. لقد صدر هذا الكتاب قبل " غاسبار الليل " بعشرين عاماً. وقام بودلير بنقل كثير من نصوصه إلى اللغة الفرنسيّة، ونشرها في كتابه الشهير " الجنائن المعلّقة – الأفيون والحشيش " عام 1860. ()

بالتأكيد إنّ ديكوينسي شاعر موهوب، استطاع باستجابته لحساسيّته وذائقته أن يتخلص من علائق الشعر وأغلاله القديمة. ولكنه بالمقابل لم يقدم على كتابة قصيدة النثر بالمعنى الدقيق للمصطلح، وربّما يدخل ما قيل في تجربته ضمن إطار الدعائيّة الانكليزيّة، فديكوينسي لم يكن معنيّاً بكتابة (قصيدة) أو (شعر) عندما أصدر نصوص اعترافاته. يقول: " إن هذه الأنماط ليس لها سابق في الأدب كما أعرف "، كما أطلق على نمطه الكتابي هذا تسمية: " النثر المشحون بالعاطفة " ().

من هنا يتأتّى لنا القول بمسارين قادا إلى إنضاج قصيدة النثر، فقد عمد الانكليز إلى (تشعير النثر) في حين سعى الفرنسيّون إلى (نثر الشعر) وهذان المساران – كما أرى – ينطلقان من مبدأ عكسيّ، أو متعارض ولكنهما يلتقيان في نقطة واحدة هي التهيئة لقصيدة النثر.

3

وبعيداً عن هذه المبالغات التي لا تخدم الحقيقة في شيء، نجد أنّ في إشارة (بوالو) السابقة نوعاً من الخميرة الثوريّة، التي ستكون مدعاة لفهم الشعر فهماً مغايراً، وهذا ما تحقّق فعلاً، حيث تنادى عدد من المجددين إلى هدم النظام الشعريّ التقليديّ، وقد تم ذلك بمؤازرة من (فنيلون) الذي يُعدّ أحد زعماء التجديد في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأحد أبرز المنظّرين الأكاديميين، حيث قدّم رسالة إلى الأكاديميّة الفرنسيّة عام 1714، طالب فيها بضرورة الفصل بين (الشعر) و (فن نظم الشعر)، وقد صرّح: بأن كتاباتهم الجديدة مليئة بالشعر، في الوقت الذي لا يوجد فيها أي انصياع لقواعد النظم. كما أكّد أنّ نظم الشعر والالتزام بالقافية يخسر أكثر مما يربح، إنه يخسر كثيراً من التنوّع والسهولة والتجانس. () والقافية غالباً ما تجبر الشاعر، الذي ينطلق بعيداً في التفتيش عنها، على الإطالة والإبطاء في قصيدته، ولا يكون له في المتحصّل من قصيدته سوى الحشو الذي يغلب عليها، أما المعبّر منها والجماليّ فسيكون أمراً محدوداً وضيّقاً، فالشعراء التقليديّون يهتمّون بالقوافي أكثر من اهتمامهم بجوهر الفكرة وعمق العاطفة، والوضوح في الكلمات والتراكيب الطبيعيّة، وجزالة التعبير، بحسب ما يرى فينلون. ()

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير