تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كانت هذه إذن البادرة الأولى التي وجّهت الشاعر إلى البحث عن جدواه خارج النُظُم القاسية والقسريّة، كانت اللغة هي التي تقود الشاعر بحسب مرونتها أو قسوتها إلى بُنى وتراكيب تغلب عليها الجاهزيّة والكليشيهيّة، ولاسيّما بانتظامها في موازين وإيقاعات كميّة رتيبة. " وقد كتب الأب " بونس " يقول: " إن التكرار الملح للأوزان ذاتها وللقوافي ذاتها، هو اليوم بالنسبة لنا، مدعاة للضجر" () والآن هاهو الشاعر ينتج لغته صافية وحرّة ونافرة، ها هو ينبعث عبر لغته ومن خلالها متنبّها إلى مديات الجمال البكر، التي لم تتعرّف عليها (غنائيّات) المراحل الماضية. " إنّ قيود النظم مربكة، وهي بدون فائدة. والواقع إنّ الجمال الشعريّ الحقيقيّ لا علاقة له بهذه القيود. قد يكون الجمال كامناً في النثر ( ... ). وقد يكون في النثر أفضل منه في الشعر ( ... ) إنّ النثر الشعريّ موجود، وقد بدأوا يحسّون بوجوده. وللنثر تناغمه أو يمكن أن يكون له ذلك، من مزج متنوّع في المقاطع السهلة، الممتلئة والرنّانة البطيئة تارة والسريعة طوراً، كما تستعذب الأذن، ومن وقفات واستراحات لا يبقى بعدها للنثر ما يتمنّاه. إنّ هذا التناغم لتستطيبه الأذن أكثر بكثير مما تستطيب تناغم الشعر الذي لا تستطيع رتابته أن تخضع لتنوّع العواطف أو الإنطباعات المعبّر عنها. إذن، [فقد كان على] الشعر أن يقطع هذا الإيقاع الرتيب ". ()

عدا ذلك، فقد أسهمت الترجمة في تفعيل هذا التوجّه الناهد إلى تحرير اللغة الشعريّة، "وكان " هوبير " الذي ترجم (الجرّة المكسورة) لـ "جيسنير" يوضّح أنّه يفضّل "استخدام الكلمة الحقيقيّة"، أي " جرّة " وليس " كأس " [كذا] أو" وعاء " بدلا من كلمة نبيلة ولكن غامضة ولا تنسجم مع المعنى " ().

مازلنا ضمن نطاق (الكلاسيكيّة)، وما طرأ على فهم الشعر من تحوّلات ضمن هذه المرحلة المبكرة. وأشّرنا الدوافع والبواعث التي أسهمت في نبذ القوانين السائدة قبل ذاك. إنّ هذه التحوّلات إنّما استغرقت ما عرف بمرحلة الكلاسيكيّة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. في هذه الاثناء كانت (البرجوازيّة) قد أرست قواعدها ودعاماتها، وشرعت في تغيير الملامح التي سادت في القرون الوسطى، ممثلة بما أنتجه الفكر (الأرستقراطيّ – الإقطاعيّ) من ثوابت وتقاليد ونزعات تجنح إلى قمع العقل وتحجيم دوره، لصالح قلّة قليلة من المتنفذين والمنتفعين.

وبما أنّ المحاولات التجديديّة في الرواية والدراما والقصيدة الغنائيّة، كانت من معطيات البرجوازيّة الجديدة، يحق لنا ان نؤكّد أن التغيّر إلى الكتابة الشعريّة، بالنثر إنما هو استجابة لهذا الإنحراف بالحساسيّة والذائقة، الذي أملاه الرفض العقائديّ للفضاء الأرستقراطيّ المتسلّط.

وضمن هذا الجنوح الفكريّ الذي شغل هذا الحيّز الزمانيّ، نشأت التباشير الأولى للرومانتيكيّة، ونظريتها الجماليّة. التي لم تفترق كثيراً عن قوانين الفن الكلاسيكيّ، لكنّها وسّعتها، ففي حين كانت الكلاسيكيّة تؤكد على (الوصف الحيّ للأشياء الخارجيّة)، راحت الرومانتيكيّة تراهن على (وصف خلجات النفس). وهذا الأمر حررّ الشعر من الازدحام الميثولوجيّ، الذي كان يشكّل مادة أساسيّة لإظهار عواطفهم، التي ظلّت غامضة وعصيّة، وهذا الجانب بالذات لم يعد مهمّاً مع النزعة الرومانتيكيّة وشعراء مرحلتها الجدد، وذلك لوجود الغرض المعنيّ والمشخّص حاضراً في وجدانهم. ()

وابتداءً من هذه اللحظة، أخذت ملامح مفهوم قصيدة النثر الأوربيّة ـ الفرنسيّة، بالتشكل، ولعل (شاتوبريان) قد أسهم أكثر من أي شخص آخر، بإشعاع عبقريّته، في تطوير القصيدة، أو بالأحرى في تطوير" الأغنية النثريّة " ()، على أنه لم يدّعِ ـ أبداً ـ كتابة قصيدة النثر، بالمعنى الدقيق لها. لقد كانت كتاباته عفويّة، تحقق رغبته في كتابة حرّة، وجماليّة مطلقة، بعيداً عن محدّدات المصطلح الذي لم يكن يشغله ابداً، وربّما تكون مقطوعته المتقنة ـ بحسب سوزان بيرنار ـ " الربيع في بريتانيا "، أنموذجاً متقدّماً لقصيدة النثر يعطي شاتوبريان حقّ الريادة (). ولكنّها على أيّة حال ريادة (ناقصة) إذ لم يدعمها الوعي بها، وسوف يلزمنا الأمر سنوات أخرى حتى يتعرّف العالم على (الوزيوس بيرتران) () وكتابه الشعريّ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير