وأخصّ ما يعجبني في هذا الكتاب، انه لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية، وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكتّاب، حين ينشئون شعراً أو نثراً، فهذا الكتاب مزاج من العلم والأدب جميعاً، وهو دقيق مستقص حين يأخذ في العلم، كأحسن ما تكون الدقة والاستقصاء، وحر مسترسل حين يأخذ في الأدب، كأحسن ما تكون الحرية والاسترسال. وهو من أجل ذلك يرضي الباحث الذي يلتزم في البحث مناهج العلماء، ويرضي الأديب الذي يرسل نفسه على سجيتها، ويخلي بينها وبين ما تحب من المتاع الفني، لا تتقيد في ذلك لا بحسن الذوق، وصفاء الطبع، وجودة الاختيار.
وقد عرض الكاتب للشعر، فأتقن درس قوافيه وأوزانه، لا إتقان المقلّد، الذي يلتزم ما ورث عن القدماء، بل إتقان المجدد، الذي يحسن التصرف في هذا التراث، الذي لا يضيّع منه شيئاً، ولكنه لا يفنى فيه فناء، ثم أرسل نفسه على طبيعتها بعد ذلك، فحاول أن يستقصي ما يكون من صلة بين أنواع القوافي وألوان الوزن، وبين فنون الشعر التي تخضع للقوافي والأوزان، فأصاب الإصابة كلها في كثيرٍ من المواضع، وأثار ما يدعو إلى الخصام والمجادلة في مواضع أخرى، فهو لا يدع بحراً من بحور الشعر العربي، إلا حاول أن يبين لك الفنون التي تليق بهذا البحر، أو التي يلائمها هذا البحر، وضرب لذلك الأمثال في استقصاء بارع لهذا البحر، منذ كان العصر الجاهلي، إلى أن كان العصر الذي نعيش فيه، وهو يعرض عليه من أجل ذلك ألواناً مختلفة مؤتلفة من الشعر، في العصور الأدبية المتباينة، ألواناً في البحر إلى أقيمت عليه، وفي الموضوعات التي قيلت فيها، ولكنها تختلف بعد ذلك باختلاف قائليها وتباين أمزجتهم، وتفاوت طبائعهم، وتقلبهم آخر الأمر بين التفوق والقصور، وما يكون بينهما من المنازل المتوسطة، والمؤلف يصنع هذا بالقياس إلى بحور العروض كلها، فكتابه مزدوج الإمتاع، فيه هذا الإمتاع العلمي، الذي يأتي من اطراد البحث على منهجٍ واحدٍ دقيق، وفيه هذا الإمتاع الأدبي، الذي يأتي من تنّوع البحور والفنون الشعرية التي قيلت فيها، وتفاوت ما يعرض عليك من الشعر في مكانها من الجودة والرداءة.
والمؤلف لا يكتفي بهذا، ولكنه يدخل بينك وبين ما تقرأ من الشعر، دخول الأديب الناقد، الذي يحكّم ذوقه الخاص، فيرضيك غالباً، ويغيظك أحياناً، ويثير في نفسك الشك أحياناً أخرى. وهو كذلك يملك عليك أمرك كله، منذ تأخذ في قراءة الكتاب، إلى أن تفرغ من هذه القراءة، فأنت متنبه لما تقرأ تنبهاً لا يعرض له الفتور، في أي لحظة من لحظات القراءة، وحسبك بهذا تفوقاً وإتقاناً.
وليس الكتاب قصيراً يقرأ في ساعات ولكنه طويل يحتاج إلى أيام كثيرة، وحسبك أن صفحاته تقارب تمام المائة الخامسة، وليس الكتاب هيناً يقرأ في أيسر الجهد، ويستعان به على قطع الوقت، ولكنه شديد الأسر، متين اللفظ، رصين الأسلوب، خصب الموضوع، قيّم المعاني، يحتاج إلى أن تنفق فيه خير ما تملك من جهدٍ ووقت وعناية، لتبلغ الغاية من الاستمتاع به. هو طرفةٌ بأدق معاني هذه الكلمة، وأوسعها وأعمقها، ولكنها طرفةٌ لا تقدّم إلى الفارغين، ولا إلى الذين يؤثرون الراحة واليسر، ولا إلى الذين يأخذون الأدب على أنه من لهو الحديث، وإنما تقدم إلى الذين يقدرون الحياة قدرها، ولا يحبون أن يضيعوا الوقت والجهد، ولا يحاولون أن يتخففوا من الحياة، ويأخذون الأدب على أنه جد، حلوٌ مر، يمتع العقل، ويرضي القلب، ويصفي الذوق.
هؤلاء هم الذين سيقرؤون هذا الكتاب، فيشاركونني في الرضى عنه، والإعجاب به، والثقة بأن له ما بعده، ويشاركونني كذلك في ترشيح هذا الكتاب لجائزة الدولة، التي تقدمها الحكومة المصرية لخير ما يصدره الأدباء من كتب، إن جاز لك ولي أن ندل لجنة هذه الجائزة على ما ينبغي أن تدرس من الكتب، لمنح هذه الجائزة.
أما بعد فإني أهنئ نفسي وأهنئ قرّاء العربية بهذا الكتاب الرائع، وأهنئ أهل مصر والسودان بهذا الأديب الفذّ، الذي ننتظر منه الكثير. "
هذا هو بأيسر طريق رأي الدكتور طه حسين في الجزء الأول من كتاب المرشد للدكتور عبد الله الطيب، وهو رأي كما هو واضح لا تنقصه الجرأة ولا الصراحة، غير أني سمعت أن من وراء السطور شيئاً آخر، فقد حدثني صديقي الأستاذ التجاني سعيد القاطن بالسودان أن طه حسين كان يبتغي من وراء هذه المقدمة أن يصنع في السودان رجلاً مثله تماماً على طريقته ومذهبه، وأنه بمعاونة المستشرقين وجد بغيته عند الدكتور عبد الله الطيب، ولكنه فيما بعد لم يفلح لأن الدكتور الطيب منحدر من أسرة عريقة في التدين، كما ذكر ذلك هو في رسائله إلى الدكتور طه حسين في الرسالة المؤرخة في 21/ 9/1954م.
وكانت النتيجة الحتمية لهذا التدين عند الطيب أن ينحاز إلى الأمة وإلى قرآنها وتراثها، بشكل يتناقض تماماً مع توجهات طه حسين، والله أعلم.
ـ[وضحاء .. ]ــــــــ[27 - 12 - 2006, 04:27 م]ـ
الكتاب غير موجود .. بحثت عنه في كل مكان حتى أوصيت بعض الإخوة السودانيين المتواجدين بالسعودية للبحث عنه هناك .. لكنهم لم يجدوا له أثرا، حتى فقدت الأمل في الحصول عليه.
¥