تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهكذا استطاع كل روائي أن يضع بصمته الخاصة على إبداعه، رغم أنه يشارك المبدعين الآخرين في همومهم وطموحاتهم، من هنا بدت لنا صورة الطاغية لدى ماركيز تختلف عن صورة الطاغية لدى (يوسا) فـ (أوريليانو) في "مئة عام من العزلة" يعاني صراعا بين ميوله الشعرية والحياة العسكرية، في حين وجدنا الطاغية (تروخييو) في "حفلة التيس" يعاني صراعا بين إحساسه بألوهيته وبشريته، فهو تارة فوق قانون الزمن وتارة ينقض عليه المرض ليذكره بضعفه البشري!

عاش جميع الروائيين الذين درسناهم أياما مليئة بالندوب والجروح، ومع ذلك لم تهزمهم الحياة، بل تمكنوا من الانتصار عليها بفضل ممارستهم للكتابة الإبداعية!

صحيح أننا عايشنا ملامح من سيرتهم الذاتية، ولكن بعد أن نسجتها يد الخيال المبدع فأغنت فضاء الرواية، حين انطلقت من (الأنا) إلى عوالم رحبة تمس كل إنسان! بفضل حساسية اللغة التي تراوحت بين لغة الأعماق ولغة الحياة اليومية، كما تراوحت بين لغة الأسطورة والحلم والتوثيق التاريخي! بل نستطيع القول بأن الروائي الأمريكي اللاتيني استطاع أن يبني عالمه الروائي بناء محكم العناصر، كي يستطيع جذب المتلقي منذ الكلمة الأولى في الرواية حتى الأخيرة!

إذاً كان الروائي مشغولا بهم الإبداع وهم جذب المتلقي وبناء وجدانه، حتى إن بعضهم (كويلهو) أهدى روايته "إحدى عشرة دقيقة" إليه! من هنا كان سعي الكثير من الروائيين إلى اقتران الحكمة بالبساطة المبدعة، كي يستطيعوا بناء إنسان يواجه القهر والظلم، وبذلك كانت الكتابة لديهم مسؤولية أخلاقية بقدر ما هي مسؤولية فنية، سعوا من خلال الرواية إلى تزويد المتلقي بقوة روحية تجعله أقوى، فلا تدمره صعوبات الحياة!

وكثيرا ما لاحظنا توحد المتلقي مع الشخصية المرسلة (أورانيا في "حفلة التيس" والشخصية المستقبلة (عمتها) فتسهم لغة الاعتراف في إنقاذ الشخصية من العيش في سجن معاناتها، كما تضمن تفاعل المتلقي إلى درجة يجتمع في داخله الإحساس بالقلق على (أورانيا) والرعب والغثيان من فظائع ارتكبها الطاغية، وتقع ضمن المسكوت عنه! وبذلك تمكن الروائي بفضل إبداعه هذا من تحويل الهم الخاص بالشخصية إلى هم عام يمس كل متلق!!

استطاعت هذه الرواية أن تدهشنا بقدرتها على مزج الناحية الجمالية بالناحية الإنسانية، وقد ظهر ذلك واضحا في أبرز سمة فنية عرفت بها رواية أمريكا اللاتينية (الغرائبية) التي قد يظن البعض أنها أبعد ما تكون عن الإنسان وأقرب ما تكون إلى السحر والوهم والخرافة!

لقد ترك كل مبدع بصمته الخاصة في التعامل مع هذه السمة، فإذا كانت غرائبية (خوان رولفو في "بيدرو بارامو") تتعلق بعلاقة الإنسان مع ماضيه، وما يثقله من إحساس بالذنب بسبب فظائع ارتكبها أجداده في حق الهنود الحمر، سيرافقه هذا الإحساس إلى القبر وينغّص موته كما نغّص حياته! في حين بدت غرائبية (إيزابيل الليندي في "مدينة الوحوش") معنية بمستقبل من تبقى من الهنود الحمر، محملة الأجيال القادمة (أليكس الذي يتماهى مع الجغوار كي يستطيع حمايتهم بقوته، ونادية التي تتماهى مع النسر كي تجلب الأحجار الثمينة من قمة الجبل كي توظّف هذا الكنز من أجل حمايتهم)!

من هنا نلاحظ أن الغرائبية في رواية أمريكا اللاتينية غامرت في الولوج إلى عوالم مجهولة أشبه بالسحر، لكن روعتها تكمن في كونها لم تهرب إلى عالم (الفانتازيا) وتحلق بعيدا عن هموم الإنسان وقضاياه!

كل هذا يجعلنا نستنتج بأن أدباء أمريكا اللاتينية كانوا أصحاب مشاريع ثقافية نهضوية، حاولوا مخاطبة واقعهم، دون أن يتخلوا عن الاستفادة من الإنجاز الأوروبي، لهذا كرسوا أدبهم كما كرسوا حياتهم ليزدادوا التصاقا بشعوبهم، ويعبروا عن هويتهم المتنوعة (الأوروبية، الأفريقية، الهندية) وبذلك استطاعوا تقديم أدب ينطق بخصوصيتهم!

وهكذا أسهم الانفتاح الثقافي الذي كان رديفا للانفتاح الإنساني في جعل قراءة رواية أمريكا اللاتينية رحلة متعة في عوالم الدهشة والجمال والعمق، فغذّت الروح والعقل والمخيلة!

فهرس كتاب "رحلة في جماليات رواية أمريكا اللاتينية"

-تمهيد: إشكالات أدب أمريكا اللاتينية

-المقدمة: تعريف بالمصطلح وتطور الرواية في أمريكا اللاتينية

-خوان رولفو

جماليات رواية "بيدرو بارامو"

-ماركيز

جماليات رواية "مئة عام من العزلة"

-ماريو فارغاس يوسا

جماليات رواية "حفلة التيس"

-إيزابيل الليندي

جماليات رواية "مدينة الوحوش"

-باولو كويلهو

"جماليات رواية ساحر الصحراء "السيميائي"

-خاتمة

ملاحظة:

هذه رسالة وصلتني عبر البريد الإلكتروني من أصدقاء القصة السورية.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير