وقد شاركت دار العلوم في إثراء الفكر والأدب بإنتاج ثريٍّ غزير. وإذا كان بعضه لم يأخذ ما يستحقه من التقدير والإجلال والشهرة وزيوع الصيت فإن ذلك يعود إلى طبيعة الحياة الأدبية في مصر التي تعتمد على الصحافة في الزيوع والتأثير. ويتعجب المرء حين يرى نوابغ دار العلوم من أصحاب العلم والبيان والبحث والدرس يُعرض عنهم، وتُطوَى صفحاتهم، ويُغفَل دورهم عن قصد أو عن غير قصد، لكن أصحاب البصيرة والعقل الراشد يدركون ما أدوه من رسالة وما قاموا به من جهد مشكور.
وإذا أردت أن تدرك جهاد مدرسة دار العلوم فحسبك أن تعلم أن من بين خريجيها وأساتذتها كان "أحمد الإسكندري" و"أحمد العوامري" و"عباس حسن" في الدراسات النحوية، و"أحمد ضيف" و"أحمد الحوفي" و"علي النجدي ناصف" في الدراسات الأدبية، و"إبراهيم بيومي مدكور" و"محمود قاسم" في الدراسات الفلسفية، و"محمد غنيمي هلال" في الدراسات الأدبية المقارنة، و"إبراهيم أنيس" و"تمّام حسّان" في الدراسات اللغوية، و"علي الجارم" و"علي الجندي" و"محمود حسن إسماعيل" من شعرائها الفحول، و"حسن البنا" و"سيد قطب" و"محمد عمارة" من رواد الفكر والإصلاح، و"عبد السلام هارون"، و"محمد أبو الفضل إبراهيم الإبياري" من رواد فن تحقيق التراث.
وما ذكرته إنما هو حبات قليلة في عقد عظيم يزين جِيدَ مصر، ويزيده بهاء وحسنًا. و"إبراهيم أنيس" واحد من تلك الحبات اللامعة التي نبغت في الدراسات اللغوية، وقد عُدَّ رائدا لها في مصر والعالم العربي.
المولد والنشأة
شهدت مدينة القاهرة مولد إبراهيم أنيس سنة (1324 هـ = 1906م)، وقد نشأ في أسرة كريمة يقوم عائلها على تربية أولاده تربية كريمة وتعليمهم تعليمًا راقيًا. ولما اشتد عوده بدأ رحلته للتلقي والدرس؛ فالتحق بإحدى المدارس الابتدائية، وبعد ذلك انتقل إلى المدرسة التجهيزية التي كانت ملحقة بدار العلوم، وعندما حصل منها على شهادة الدراسة الثانوية انتقل إلى دار العلوم العليا وتخرج فيها سنة (1349 هـ = 1930).
وكان له إبان هذه الفترة نشاط أدبي؛ حيث كان ينظم القصائد الشعرية، ويكتب المسرحيات التاريخية والاجتماعية، وكان يهوى التمثيل أيضا، ويذكر الدكتور "مهدي علام" أن إبراهيم أنيس كان رئيسًا لجمعية التمثيل بدار العلوم، وأنه كتب تمثيلية بقلمه بعنوان "الشيخ المتصابي"، قام بدور البطولة فيها.
البعثة إلى إنجلترا
عمل "إبراهيم أنيس" بعد تخرجه مدرسًا في المدارس الثانوية. ولمَّا أعلنت وزارة المعارف مسابقتها لاختيار بعثة دراسية إلى أوربا تقدم لها، وفاز بها وسافر إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه، وفي جامعة لندن حصل على درجة البكالوريوس في الآداب سنة (1358 هـ = 1939م)، ثم دكتوراه الفلسفة في الدراسات اللغوية السامية سنة (1360 هـ = 1941م)، ولم تصرفه دراسته الجادة عن العمل الاجتماعي، فقد كان له دور بارز فيه، فانتخب رئيسًا للنادي المصري بلندن، يدير أعماله ويدير شؤونه.
العمل في الجامعة
وبعد عودته من البعثة عُين مدرسًا بكلية دار العلوم، ثم انتقل إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وظل بها عامين أنشأ خلالهما معمل الصوتيات لتحديث الدراسات اللغوية ودراسة الأصوات ومقاييس تصنيفها، ثم عاد إلى دار العلوم، وترقّى في وظائفها إلى أن أصبح أستاذًا ورئيسًا لقسم اللغويات، ثم تولَّى العمادة سنة (1375 هـ = 1955م) للمرة الأولى، ثم عين عميدًا لها مرة أخرى في سنة (1378هـ = 1958م)، وظل في منصبه عدة سنوات حتى قدَّم استقالته حين رأى الأمور تسير على غير ما يحب ويريد، ورأى العراقيل توضع في طريقه دون سبب يذكر، فانصرف إلى دراسته وبحوثه وعمله بالتدريس ولقائه بطلابه.
ويذكر تلميذه الدكتور "عبد الله درويش" أنه كان يخصص كل طاقته ووقته لكليته من الصباح المبكر إلى ما بعد الظهر، وكان يقضي في الكلية أحد عشر شهرًا، لا يبرحها إلا في شهر أغسطس حيث يقضي إجازته.
عضوية المجمع
لفت إبراهيم أنيس الأنظار إليه بدارساته وبحوثه الجديدة في علم اللغة، فاختير خبيرًا بمجمع اللغة العربية سنة (1378 هـ = 1958م)، ثم نال عضوية المجمع سنة (1381هـ = 1961م) مع تسعة آخرين انضموا إلى المجمع حين عدل في قانونه وزيد عدد أعضائه.
¥