إن هذا الإعلان العام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل سلطان غير سلطان الله , بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين , لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً. . إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً. . إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ; ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك. . ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل "الحركة " إلى جانب شكل "البيان". . ذلك ليواجه "الواقع" البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
والواقع الإنساني , أمس واليوم وغداً , يواجه هذا الدين - بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية. وعقبات مادية واقعية. . عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية , إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة. . وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد. .
وإذا كان "البيان" يواجه العقائد والتصورات , فإن "الحركة " تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية , والعنصرية والطبقية , والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة. . وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان "الواقع البشري" بجملته , بوسائل مكافئة لكل مكوناته. . وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض. . "الإنسان" كله في "الأرض" كلها. . وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى!
إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي! وليس رسالة خاصة بالعرب!. . إن موضوعه هو "الإنسان". . نوع "الإنسان". . ومجاله هو "الأرض". . كل الأرض. إن الله - سبحانه - ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم. . إن الله هو (رب العالمين). . وهذا الدين يريد أن يرد (العالمين) إلى ربهم ; وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر. . وهذه هي "العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله. وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين. ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن "الاتباع" في الشريعة والحكم هو "العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى "مشركين" مخالفين لما أمروا به من "عبادة " الله وحده. .
أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدى بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام. وكان قد تنصر في الجاهلية. فأسرت أخته وجماعة من قومه. ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام , وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدث الناس بقدومه. فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه [أي عدي] صليب من فضة وهو [أي النبي صلى الله عليه وسلم] يقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله). . قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال:" بلى! إنهم حرموا عليهم الحلال , وأحلوا لهم الحرام. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم ". .
وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه , نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين , وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض. . الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه , ويعلن تحرير "الإنسان" , في "الأرض" من العبودية لغير الله. .
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في "الأرض" لإزالة "الواقع" المخالف لذلك الإعلان العام. . بالبيان وبالحركة مجتمعين. . وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى "البيان" واعتناق "العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان. ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة , أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد!
¥