جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرفيع في الأرض ويقرره ويحميه. وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر , والتي يدعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية - بغير حق - ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم الباغية في الأرض كلها وتناصبه العداء. ولم يكن بد كذلك أن يسحقها الإسلام سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الأرض. .
ثم يدع الناس في ظله أحرارا في عقائدهم الخاصة. لا يلزمهم إلا بالطاعة لشرائعه الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدولية. أما عقيدة القلب فهم فيها أحرار. وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرار , يزاولونها وفق عقائدهم ; والإسلام يقوم عليهم يحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم , ويصون لهم حرماتهم , في حدود ذلك النظام.
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين:
(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). .
فلا تكون هناك ألوهة للعبيد في الأرض , ولا دينونة لغير الله. .
لم يحمل الإسلام السيف إذن ليكره الناس على اعتناقه عقيدة ; ولم ينتشر السيف على هذا المعنى كما يريد بعض أعدائه أن يتهموه! إنما جاهد ليقيم نظاما آمنا يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا , ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته.
وكانت قوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم , واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم. وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. ولم يكن الجهاد أداة قليلة الأهمية , ولا معدومة الضرورة في حاضره ومستقبله كما يريد أخبث أعدائه أن يوحوا للمسلمين!. .
لا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة , ولا بد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود.
(لا إكراه في الدين). . نعم ولكن: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). .
وهذا هو قوام الأمر في نظر الإسلام. . .
وهكذا ينبغي أن يعرف المسلمون حقيقة دينهم , وحقيقة تاريخهم ; فلا يقفوا بدينهم موقف المتهم الذي يحاول الدفاع ; إنما يقفون به دائما موقف المطمئن الواثق المستعلي على تصورات الأرض جميعا , وعلى نظم الأرض جميعا , وعلى مذاهب الأرض جميعا. .
ولا ينخدعوا بمن يتظاهر بالدفاع عن دينهم بتجريده في حسهم من حقه في الجهاد لتأمين أهله ; والجهاد لكسر شوكة الباطل المعتدي ; والجهاد لتمتيع البشرية كلها بالخير الذي جاء به ; والذي لا يجني أحد على البشرية جناية من يحرمها منه , ويحول بينها وبينه. فهذا هو أعدى أعداء البشرية , الذي ينبغي أن تطارده البشرية لو رشدت وعقلت. وإلى أن ترشد البشرية وتعقل , يجب أن يطارده المؤمنون , الذين اختارهم الله وحباهم بنعمة الإيمان , فذلك واجبهم لأنفسهم وللبشرية كلها , وهم مطالبون بهذا الواجب أمام الله. .
*********************
ويقول كذلك:
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظاماً محلياً في وطن بعينه فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية!
هذا تصور ..
وذاك تصور ..
ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد .. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه، يختلف اختلافاً بعيداً، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه.
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم .. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية " الإنسان " في الاختيار. وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة، المفسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
¥