من حق الإسلام أن يُخرج " الناس "من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين، وتحرير الناس أجمعين .. وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي، فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم، حاكمهم ومحكومهم، أسودهم وأبيضهم، قاصيهم ودانيهم، فقيرهم وغنيهم، تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء .. أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. وهو من خصائص الألوهية، فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه، فقد ادّعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، سواء ادَّعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء. وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية، سواء سماها باسمها أم لم يسمها!
والإسلام ليس مجرد عقيدة، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان. إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس، والتجمعات الأخرى لا تمكِّنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام، وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته. كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقم على عبودية العباد للعباد!
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة، لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة. والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام، فيلجؤون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في " تحرير الإنسان " ابتداء.
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة " الدين " ..
وإنه مجرد " عقيدة " في الضمير، لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة. ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهاداً لفرض العقيدة على الضمير!
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام، فالإسلام منهج الله للحياة البشرية، وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام. أما العقيدة فأمر موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات .. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان، فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات الحركة لا مسألة عقيدة .. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة، في المراحل التاريخية المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل.
********
ويقول عند قوله تعالى:
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33) سورة التوبة
إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق , وعبادة أرباب من دون اللّه. وعدم الإيمان باللّه واليوم الآخر - وفق المفهوم الصحيح للإيمان باللّه واليوم الآخر - إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق ; ويريدون إطفاء نور اللّه في الأرض المتمثل في هذا الدين , وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض , وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر. .
(يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم). .
¥