لقد كثر هذا في الشعر العربي، وهذا يدلّ على أن الشعر العربي كان مسجَّلاً في صحفِ أو في دواوين يٌقرأ منها.
"يُروى أن الأصمعي قُرئَ عليه يوماً في شعر أبي ذؤَيب:
بأسفل ذات الدير أفرد جحشها ([38])
فقال أعرابي حضر المجلس: ضلَّ ضلالك أيها القارئ إنما هي "ذات الدَّبر" وهي ثنية عندنا، فأخذ الأَصمعي بذلك فيما بعد ([39]) ".
والقرآن الكريم بقراءاته العديدة مرجعه الرواية والنقل، وقد عيب على هؤلاء الذين يعتمدون على خط المصحف في قراءة القرآن.
2 ـ الاضطراب في رواية هذا الشعر:
لقد وصل إلينا الشعر العربي عبر روايات عديدة، وفي كل رواية كانت تقوم القاعدة وتبنى الأصول، مما أدى إلى اضطراب هذه القواعد، فالكوفيون مثلاً يجوزون تأكيد النكرة المحدودة بألفاظ الشمول ويستدلّون بقول الشاعر:
يا ليت عدة حول كلّه رجب
ولو علمنا أن الرواية في البيت بنصب رجب، وأن النحاة غيروا رواية البيت ليتفق مع المشهور من لغة العرب لعرفنا كيف يكون الاضطراب في رواية هذا الشعر، فالقصيدة التي منها هذا البيت كما ذكر ياقوت في معجم البلدان لعبد الله من مسلم بن جندب الهذليّ قالها حينما منعه الحسن بن زيد والي المدينة من إمامة الناس فقال له: أصلح الله الأمير، لِمَ منعتني مقامي، ومقام آبائي وأجدادي من قبل؟ فقال: ما منعك إلاَّ يوم الأربعاء، يريد قوله:
يا للرجال ليوم الأربعاء أَمَا
ينفكَّ يحدث لي بعد النهى طربَا
إلى أن قال:
لكنه شاقه أن قيل ذا رجب
يا ليت عدة حولٍ كلُّه رجبا
ونصب رجب جاء على لغة العرب الذين ينصبون المبتدأ والخبر جميعاً بعد إن ([40]).
والرواية في مجال القرآن وقراءاته موثقة تقوم على سندٍ متين لا يتسرَّب إليه الشك ولا يعتريه الريب.
3: وقد يعتمد الشاعر الضرورات في شعره، لأن الوزن وقيوده، والقافية وروِّيها، ومراعاة الموسيقى بين الكلمات أمور يضعها الشاعر نصب عينيه، ومن أجلها قد يخرج عن القاعدة، ويتنكَّب عن الجادّة، ويجوِّز ما لم تجوِّزه أساليب العربية. يقول الشيخ بهاء الدين: "إن كل ضرورة ارتكبها شاعر قد أخرجت الكلمة عن الفصاحة ([41]) ".
ومن الأمثلة على ذلك قول ابن هشام: لا تظهر أَن بعد كَيْ ([42]) إلاّ في الضرورة كقوله:
فقالت: أَكلُّ الناس أصبحت مانحاً
لسانك كيما أن تغرَّ وتخدعا ([43])
ومن ذلك ثبوت الحرف مع الجازم في نحو قوله:
وتضحك منِّي شيخة عبشمية
كأَن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا ([44])
ومن ذلك الإتيان بضميرٍ منفصل في موضعٍ يجب فيه اتصاله كقول:
بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت
إياهم الأرض في دهر الدهاريرِ
ومن ذلك تقديم المستثنى وعامله على المستثنى منه كقوله:
خلا الله لا أرجو سواك وإنما
أعد عيالي شعبةً من عيالكا ([45])
والقرآن الكريم ليس موضع ضرورات.
4: كثرة الأبيات المجهولة:
والشعر العربي كثرت فيه الأبيات المجهولة النسب، فزيادة أن بعد كي بهذا البيت المجهول القائل:
أردت لكيما أن تطير بقربتي
فتتركها شَنّاً ببيداء بلقع
لا يمكن أن نضعه بمنزلة آية من آيات الله قرئت بوجه ما، وبرواية مسلسلة معروفة لا تمتد إليها الجهالة أو الشك.
ومن العجيب أن بعض النحويين يستدلُّون بشطر بيت لا يُعرف شطره الآخر "كالشاهد الذي يحتجُّون به على جواز دخول اللام في خبر لكن، وهو قول القائل المجهول:
ولكنني من حُبِّها لعميد ([46]) ".
ومع ذلك نجد هؤلاء النحويين يقفون من بعض قراءات القرآن التي لم يجهل سندها موقف النقد والمعارضة كما فعل الزمخشري في قراءة ابن عامر.
5: كثرة الأبيات المدسوسة أو المنحولة:
لقد وضع بعض رواة الشعر أشعاراً، ودسُّوها في القصائد ونسبوها إلى غير أصحابها، كحمَّاد الذي "كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار ([47]) ". وقد قال يونس عنه: "العجب لمن يأخذ عن حمَّاد، كان يكذب، ويلحن، ويكسر ([48]) ".
وابن دأب الذي كان "يصنع الشعر، وأحاديث السمر، وكلاماً ينسبه إلى العرب ([49]) ".
وخلف الأحمر الذي تحدث عن نفسه فقال: "أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا عليَّ به، فكنت أعطيهم المنحول، وآخذ الصحيح، ثم مرضت، فقلت لهم: ويلكم: أنا تائب إلى الله، هذا الشعر لي، فلم يقبلوا منِّي، فبقي منسوباً إلى العرب لهذا السبب ([50]) ".
¥