تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[قرأت لكم: من بلاغة القرآن الكريم.]

ـ[أبو محمد نائل]ــــــــ[09 Dec 2006, 01:33 ص]ـ

نفحات من بلاغة القرآن الكريم - د. عبد الله بن سليم الرشيد

(أستاذ مشارك، رئيس قسم الأدب في كلية اللغة العربية بالرياض)

امتاز أسلوب القرآن باجتناب سبل الإطالة، والتزام جانب الإيجاز – بقدر ما يتسع له جمال اللغة- وذلك جعله أكثر الكلام افتنانا، أي أكثره تناولا لشؤون القول

وأسرعه تنقلا بينها. (1)

وفي هذه المقالة إشارات إلى بعض مكامن البلاغة في القرآن الكريم، بعضها مما وقفت به من قراءات متعددة لبعض المعتنين بهذا الجانب في الدراسات القرآنية، وبعضها

اجتهاد في تلمس موضع البلاغة، آمل أن يكون فيه شيء من التوفيق، وأعوذ بالله أن أتكلم في كتابه بما ليس لي به علم.

وكان مما وقفت به مليّا قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ، (2) وهي في آيات يصدق عليها ما قاله محمد دراز من أن أسلوب القرآن يتنقل في المعنى الواحد على نحو من السرعة لا عهد بمثله، ولا بما يقرب منه في كلام غيره، ومع هذه التحولات السريعة التي هي مظنة الاختلاج والاضطراب، تراه لا يضطرب، بل يحتفظ بتلك الطبقة العالية من متانة النظم. (3)

هذا الانتقال السريع الموجِز لكثير من الوقائع والأحداث في تلك القصة بيِّن في قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتابِيْ هذَا فَألْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاْذَا يَرْجِعُوْنَ*قالتْ يَا أَيُّها المَلَؤُ ... } (4) وفي قوله: {وَإِنِّيْ مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُوْنَ *فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ... }. (5) ولا شك أن في السياق كثيراً من الحذف البليغ، ففيه إيماء إلى الوقائع، وانتقال أشبه بالإضراب عما يُستغنى عن ذكره.

أما قوله عز وجل: {قَالَ يَأيُّها المَلؤُا أيُّكُمْ يَأتِيْنِيْ بِعَرْشِهَا قَبْلَ أنْ يَأتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أنَا آتيِكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وإنّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمِينٌ*قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَبِ أنَا آتِيكَ بِهِ قبَلَ أن يَرْتَدَّ إليكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيُّ كَرِيمٌ} (6)

ففيه انتقال فجائي بين قول الذي عنده علم من الكتاب وتكفله بأن يأتي بعرشها قبل أن يرتد طرف سليمان إليه، وبين وقوع ما تعهد به من إحضار العرش عند سليمان.

إن القارئ لهذه الآية يعيش فيها بشعوره وإحساسه بدقة عظيمة، إذ إنه – أي القارئ- لا يكاد يرتد إليه طرفه حتى يفاجئه سياق الآية بتحقق الأمر ووقوعه، وهذا نمط من البلاغة القرآنية مفرَد، فقد تضافر اللفظ والمعنى والسياق في تأدية القصة ونقل ذلك الجو الذي جرت فيه تلك الواقعة العجيبة.

وشبيه بهذا النمط من البلاغة في سور أخرى قوله تعالى: {فلَمَّا رَأوَهُ عَارِضًا مُسْتَقبِلََ أوْدِيَتِهِمْ قَالوْا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتمُ بِهِ رِيْحٌ فِيْها عَذَابٌ أليِمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّهَا فَأصْبَحُوْا لَا يُرَى إلا مَسَاكِنُهُمْ} (7)

فالانتقال المفاجئ من وصف الريح المقبلة إلى بيان أثرها المروّع (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) يجعل تالي القرآن يشعر بما وقع لأولئك القوم، ويعيش في الجو الذي صحب تلك الريح، بحيث إن أثرها كان لشدته وهوله مغنيا عن ذكر مبادئ هبوب الريح وما فعله القوم لاتقائها.

وضرب آخر من التعبير القرآني الفريد في قوله تعالى في قصة الأحزاب متضمنا ذكر ما لقيه المؤمنون من الشدة والجهد:

{إذْ جَاؤُوْكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا} (8)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير