وثاني البراهين: أنه لم يرد في الشرع نصب علامة على ليلة القدر تكون في بدايتها، وإنما ورد علامتان في صبيحتها:
إحداهما: خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رؤياه الكريمة أن يسجد في صبيحتها على ماء وطين.
وقد صح أن المسجد وكف بالمطر في صبيحة ليلة إحدى وعشرين، وفي ليلة ثلاث وعشرين. ولم يثبت أن المسجد لم يكف بقية العشر.
قال أبو عبدالرحمن: ولا نستبعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ليلة القدر بتحقق رؤياه بعد ما أنسيها، ولكنه لم يعينها لأمته فأمر بتحريها في الوتر من العشر، وقد قلن لكم إن كل ليلة منذ ليلة العشرين يحتمل أن تكون وترا إلى أن يطلع هلال شوال.
وأخراهما: أن شمس صبيحتها تطلع بلا شعاع.
وما ضمن الله لنا علم ذلك، فقد يكون ذلك أول طلوعها قبل أن تشرق علينا فنراها.
وثالث البراهين: لو كانت ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة.
ولو كانت ليلة سبع وعشرين ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها.
قال ذلك بمقابل أن رجالاً رأوا أنها ليلة سبع وعشرين.
وإذن فكل ليلة من ليالي الوتر ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تفسير للوتر وليست تعييناً لليلة.
ألا فليعلم جميع المسلمين أن المسلم لن يضمن موافقة اجتهاده في العبادة والدعاء لليلة القدر حتى يجتهد العشر الأواخر كلها ابتداء من ليلة عشرين.
واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر غير متنقلة بمعنى أن تكون في عام مثلاً ليلة ثلاث وعشرين، وفي عام ليلة سبع وعشرين. بل هي ليلة واحدة ثابتة معينة فعلم الله مبهمة في علم الخلق.
والبرهان على ذلك أن الله سبحانه قال: (إنّا أنزلناه في ليلة القدر).
ولم يقل في ليلة قدر.
وبرهان آخر وهو أنها لو كانت متنقلة لكانت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم للدلالة على عام واحد، وليس كذلك سياق الحديث، فسياقه يدل على أنها ليلة ثابتة.
وبرهان ثالث وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي في العشر الآواخر في تسع يمضين أو في سبع يبقين.
ولو كانت متنقلة لقال: تارة في تسع، وتارة في سبع.
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي غير متلو، وما كان ربك نسيا.
واعلموا ـ أيها الأحباب ـ أن ليلة القدر عظيمة القدر لقوله تعالى (خير من ألف شهر). فهذا أحد معاني تسميتها.
وهي أيضاً ليلة تقدير لقوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) وقوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر).
وهذا شامل لتقدير الأقدار والأرزاق والآجال في تلك السنة.
وتعليل التسمية بأكثر من معنى وارد، فإننا نجد في الصلاة الشرعية جميع المعاني اللغوية لمادة الصاد واللام والحرف المعتل.
وحري بمن تحرى ليلة القدر أن يحسن الله خاتمته وأن يحييه حياة طيبة، لأن الله يمحو ويثبت، وتحري ليلة القدر التجاء إلى الله واستعاذة بقدرته في وقت إجابة وتقدير وسلام إلى مطلع الفجر.
وما أفتيتكم ـ أيها الأحباب ـ إلّا بمقتضى أصول الأخذ بالظاهر التي أرجو أن ألقى الله عليها متمثلاً لمقتضاها غير مغير ولا مبدل ولا صارف بلا برهان.
ولقد بكرت لكم بالحديث عن ليلة القدر قبل أوقات تحريها لتعقدوا العزم في وقت مبكر، ولتوطنوا النفس، وليكون عندكم مهلة للمراجعة إن لم تثقوا بفتواي، والله المستعان ".