المال والمال وحده هو المحرك عند الفردي وعابد الذات، الأرباح والخسائر، ورغم أن الله قد جعل له عينين ولساناً وشفتين، إلا أنه ظنها آخر المطاف ولم ينزع بها إلى ماوراء ظاهريتها المحدودة ولم يتجاوز العقبة التي كان يفترض بجوارحه أن تنهض إليها (فلا اقتحم العقبة) (البلد90/ 11)، والذي هو (فكُّ رقبة* أو إطعام في يوم ذي مسغبة* يتيماً ذا مقربة* أو مسكيناً ذا متربة) (البلد 90/ 13 - 16)، إنه العطاء والخروج من الذات والفردية القاتلة، ليصبح جزءاً من الجماعة الصالحة، ويكف عن فرديته التي ملأته فلم ير غيرها (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) (البلد90/ 17)، لقد خرج من أسر الذات وانتمى إلى الجماعة عندما اقتحم العقبة.
لقد وصف القرآن الكريم الفرد بأنه ظلوم، كفور، وعجول،وأكثر شيء جدلاً، وهلوعاً، و يطغى وهو كنود، ويفجُر أمامه وهو في خسر ...
الإنسان ظلوم كفرد ولكن صلته مع الآخر ستوجهه نحو العدل
الإنسان عجول كفرد والجماعة تكبح عجلته
الإنسان كفور كفرد ولكن انتماءه للآخرين قد يجعله شكوراً
وهو جهول ينظر من زاوية ضيقة فإذا انتمى إلى الجماعة صار إدراكه أوسع
.... شيء واحد يجعله يخرج من أسر حواسه الخمسة، ألا وهو البصيرة! قال تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة). (القيامة75/ 14) [يحضرني هنا عبارة للإمام سفيان الثوري رحمه الله يقول فيها: بصر العينين من الدنيا وبصر القلب من الآخرة وإن الرجل ليبصر بعينيه فلا ينتفع ببصره فإذا أبصر بالقلب انتفع].
البصيرة تخرج الفرد من أسر حواسه الخمسة التي لا ترى إلا الطعام والشراب والمال والنكاح والمصالح الضئيلة.
والمرهب في الأمر أن الله تعالى قد أحصى الناس (لقد أحصاهم وعدهم عداً) (مريم 19/ 94)، وهم سيتابعون تلك الفردية (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (19/ 95).
وبينما تشكل الفردية جوهر الوثنية الحديثة، تشكل الجماعة محور الحياة الصالحة، [وواضح أن الضمير الجماعي هو معقد التوجه في تلك الحياة الصالحة، وإذا أدركنا ذلك فهمنا لماذا يحرص الإسلام على عدم الوقوع في المعاصي لأن الأمر ليس خياراً فردياً، والذي لا يكون فيه عقوق الوالدين سوء أدب وقلة اهتمام من ولد عاق بل بداية تفكك اجتماعي، و لايكون الزنا حادثة إدخال عضلة متصلبة في تجويف عضلي آخر، بل انهيار النظام الأسري وطغيان العلاقات الحسية بين البشر قفزاً فوق كل ماهو معنوي وإنساني وروحي وجمالي وجماعي! وليس شرب الخمر استدعاء لنشوة فردية، بل أول طريق إهدار كرامة بن آدم وغيبوبة عقله [ومن يعلم آفات الكحول في المجتمعات الغربية يعلم عمق مانقول] ..
ما أسكر قليله فكثيره حرام! ومايضر المجتمع كله –في البداية أو النهاية- فهو حرام.
وثقب السفينة الصغير يودي بها إلى أعمق قاع. لذلك يرفض المسلمين الفردية التي تمس الجماعة.
أما الصلاة فهي عالم أعظم من كل وصف حيث العروج إلى الملأ الأعلى و اندماج الأنا مع الجماعة، بداية بالشهادة الفردية للحقيقة المطلقة الكبرى: أشهد ألا إله إلا الله .. يتلوها: الله أكبر، وعندها تندغم الأنا في الكل: (إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم)، وسواء أصليت معها في الحرم الشريف أم في الربع الخالي فأنت جزء من جماعة المؤمنين المصلين، وتجتمع في صلاتك مع النداء الإبراهيمي الأول: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)، فتسير وراء إبراهيم ويصبح الفرد أمة (إن إبراهيم كان أمة) (النحل 16/ 120). فهو منهج يعاكس عبادة الذات ولا يفتت الأمة إلى ذوات وأفراد بل يجعل الفرد أمة، والكل يمشي في الصراط المستقيم.
ليست أميركا ملحدة أيها الإخوة والأخوات (وشعبها متدين وفيه فطرة عظيمة) ولكن عبادة الذات تفسدها وتفسد على العالم إيمانه لذا فلننتبه كي لا نصبح من أتباع ذلك الدين الفردي، الذي لن يمنعك من صلاة المسلمين الظاهرة لكنه سيسلبك روحها، وسيجعلك تصلي صلاة فردية ولوكنت في الحرم ليلة القدر.
وسنتابع في المقالة القادمة بإذن الله تتمة الحديث عن أركان الدين الأميركي الجديد.