تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إننا نجد أنفسنا تجاه مشهد عصيب قاسى المسلمون الأوائل شدائده، وقد أسهمت الصورة الفنية في نقله وتشخيصه، وفي جعل القارئ يعيش فيه بشعوره وإحساسه وإن لم يشهده، ففي (زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) تصوير مهول لذلك الفزع والخوف الذي ألجم الأفواه، والعادة أن لسان الخائف ينعقد دهشة ورعبا، فيفقد القدرة على الكلام، فكأنما صعدت القلوب حقيقة إلى أعلى مجرى النفَس فسدته.

وفي قوله تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ} (9) أجد أن مجيء لفظ (الجبال) لتشبيه الأمواج العظيمة بها كان ملائما لحال القوم المخاطبين بهذا القرآن حين نزوله وهم كفار قريش، فالآية مكية، ووجه الملاءمة أنهم يعيشون بين جبال شواهق، ويظهر أن (ال) في (الجبال) عهدية، أي أن المراد – والله أعلم-: موج كهذه الجبال التي أنتم قاطنون بينها. وفي ذلك من التحذير والتقريع والتخويف ما فيه.

ومما وقفت عنده مليا من أساليب التعبير القرآني أن الآية التي تتضمن دعاء أحد الصالحين يأتي فيها- غالبا- الفعل المتضمن الاستجابة الربانية معطوفا بالفاء، كقوله تعالى في قصة زكريا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِيْ مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ، فَنَادَتْهُ الملائِكَةُ .. } (10)

وكذلك في قصة نوح: {فَافْتَحْ بَيْنِيْ وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِيْ وَمَن مَّعِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ* فَأنْجَيْنَهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفُلْكِ المَشْحُونِ} ثم عطف ب (ثم) لما ذكر مصير الظالمين: {ثُمَّ أغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} (11)

ومثل ذلك قوله تعالى في قصة لوط عليه السلام: {رَبِّّ نّجِّنِي وَأهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ* فَنَجَّيْنَهُ وَأهْلَهُ أجْمَعِينَ} ثم عطف ب (ثم) لما ذكر حال الظالمين: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} (12)

والنحويون يقولون إن الفاء للمعاقبة أي أن المعطوف يجيء ملاصقا لما قبله، وأما (ثم) فهي للعطف مع التراخي، (13) وقد كان من رحمة الله وفضله على عباده الصالحين أن كانت إجابته لاستغاثتهم عاجلة، ومجيء الفاء عاطفة هو الذي دل على هذا، وأما الكاذبون المعاندون فكان من سعة فضله أن أمهلهم، ومجيء (ثم) دالّ على ذلك الإمهال.

وفي قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ* وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَلِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (14)

نجد أن صفة الخلود جاءت بصيغة الجمع في البشارة (خالدين) وبصيغة الإفراد في الوعيد (خالدا).

وقد سئل أبو سعيد بن لبّ عن سر ذلك فقال: إن الجنة لما كان لأهلها فيها اجتماعات وليس فيها فرقة ولا توحد، جاء قوله (خالدين فيها) اعتبارا بالمعنى الحاصل في الجنة من الاجتماع، ولما كان أهل النار على الضد من هذا وكل واحد منهم في تابوت من نار، حتى يقول أحدهم إنه ليس في النار إلا هو؛ جاء قوله (خالدا فيها) اعتبارا بهذا المعنى. (15)

أقول: ووقع في حسباني أن الجمع في الأولى زيادة في البشارة للمؤمنين؛ لأن السعادة لا تتم إلا باجتماع الأضراب والأتراب، والإفراد في الأخرى زيادة في الوعيد؛ لأن خصوص العذاب زيادة فيه، والله أعلم بمراده.


(1) ينظر: النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبدالله دراز، اعتنى به وخرج أحاديثه عبدالحميد الدخاخني، دار طيبة، ط الثانية 1421هـ: ص182.
(2) الآيات 17 - 44 من سورة النمل.
(3) ينظر: النبأ العظيم ص 182 حاشية.
(4) سورة النمل 28 - 29.
(5) سورة النمل 35 - 36.
(6) سورة النمل 38 - 40.
(7) سورة الأحقاف 24 - 25.
(8) سورة الأحزاب 10.
(9) سورة هود 42.
(10) سورة آل عمران 38 - 39.
(11) سورة الشعراء 118 - 120.
(12) سورة الشعراء 169 - 171. على أن (الفاء) و (ثم) تتعاقبان في مثل هذا السياق، وذلك مدعاة لإفردها بدراسة تجلِّي مواضع البلاغة فيها.
(13) ينظر: ثمار الصناعة في علم العربية، ابن هبة الله الدينوري، تحقيق د. محمد الفاضل، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1411هـ/1991م: ص 481.
(14) سورة النساء 13 - 14.
(15) ينظر: الإفادات والإنشادات، الشاطبي ص 154.

ـ[أبو محمد نائل]ــــــــ[07 May 2009, 01:39 م]ـ
كنت أرحب بقراءة تعليق على الموضوع.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير