تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهو في برجه العاجي لا يدري ما يعانيه المواطنون وأبرز ما يعانون منه وإن غفلوا عنه في ظل نداء الحاجة المادية، هو حاجتهم المعنوية الدينية التي قصروا كمعظم المسلمين في استيفائها، فسكتوا، كما سكتنا، عن صنوف الفساد الديني والأخلاقي، ولم يطيقوا صبرا لما طال العسف دنياهم فخرجوا يلوحون بأرغفة الخبز، وذلك يشبه إلى حد كبير ثورة شعبية مشهورة وقعت عندنا في مصر في عام 77 استخف بها الرئيس فسماها "انتفاضة الحرامية"!، أو اللصوص، فثار المواطنون لارتفاع ثمن رغيف الخبز وبلوغ سعر الكيلوجرام من اللحم: جنيه واحد، وهو الآن على مشارف الستين!، مع أنهم لم يثوروا لما صادر قرار الأمة بأكملها ووقع على اتفاقية كامب ديفيد المشئومة التي نعاني الآن من آثارها السلبية، بل تلمس كثير منا العذر له ولا زال، والتقصير لا يختص به وحده من بين قادة المنطقة فهذه حقيقة أولى، ولكنه المقصر الأول فهذه حقيقة ثانية، فهو الذي سن سنة الاتفاقيات الثنائية برسم السلام الدائم، وهي سنة سيئة تابعه عليها من تابع، فعليه وزرها ووزر من سار عليها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، فكانت ثورة، أيضا، لمطالب الجسد وإن خربت الروح بل وماتت.

ومثلها عقوبات أخرى في دول كان أهلها يتندرون على من يقوم الليل فأقامهم الرب، جل وعلا، في البرد القارص من أجل جالون من الكيروسين يستدفئون به، في أزمة وقود، فـ: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

لا يمكن النظر في الأمر بعين الشرع فقط، دون عين القدر، فإن استقامة أمور الدنيا مطلب رئيس لصفاء الذهن حتى يتفرغ لتحصيل أمور الدين، وقد كان الخلفاء الأوائل يعتنون بذلك أيما عناية، فعثمان، رضي الله عنه، يسأل الناس عن ثمن البقرة، وهو على المنبر يوم الجمعة قبل أن يخطب، وهو يعلم أن البقرة ليست مرادة لذاتها!، فلم يخلق الناس لشرائها والتمتع بلحومها وألبانها وإنما هي وسيلة من وسائل المعاش، وعمر، رضي الله عنه، يسأل في المواسم عن الأسعار ويجمع الناس على الطعام ليحسب كم يكفي الواحد من العطاء الذي يفرضه لكل مسلم ليسد جوعته، وإن جاع هو، وأخباره في ذلك مشهورة معلومة، وفي طبقات ابن سعد رحمه الله:

كان عمر يصوم الدهر قال فكان زمان الرمادة إذا أمسى أتي بخبز قد ثرد بالزيت إلى أن نحروا يوما من الأيام جزورا فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به فإذا فدر، (وهو القطعة كما في "لسان العرب")، من سنام ومن كبد فقال أنى هذا قال يا أمير المؤمنين من الجزور التي نحرنا اليوم قال بخ بخ بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها ارفع هذه الجفنة هات لنا غير هذا الطعام قال فأتي بخبز وزيت قال فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز ثم قال ويحك يا يرفأ احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام وأحسبهم مقفرين فضعها بين أيديهم.

فخص الناس بطيب الجزور، ثم خصهم بطعامه من الخبز والزيت وإن طوى جائعا، فليس في تصوره إلا رعيته التي سيسأل عنها، وعمر هو عمر وكفى!.

وعمر بن عبد العزيز، رحمه الله، يصل بالفقر إلى نسبة صفر % في سابقة تؤكد علو كعب الإسلام على بقية الأنظمة الحادثة ....... إلخ.

ولكن مع ذلك لا بد من النظر بعين الشرع فإن ما يحدث هو عقوبة نزلت بشتى الأمصار تقريبا، فليس معيار النجاح كما كان يقال في تلك البلاد: عدد مستخدمي الهاتف المحمول وعدد من يمتلكون أجهزة حاسب آلي وعدد من يتعاملون مع شبكة المعلومات وإنما معياره عدد من يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، فلذلك أنزل المال، فهو وسيلة لا غاية، والإمامة في دين الإسلام ليست لسياسة الناس بالجور فيتنعم الحاكم ويشقى المحكوم، حتى أثر عن بعض الرؤساء المعاصرين والعهدة على الراوي الذي كتب عنه أنه كان يتناول إفطارا من فطائر بالتفاح يستورد دقيقها له خصيصا من سويسرا وكان كلبه يتناول معه وجبة من لحم البوفتيك! والشعب آنذاك لا يجد رغيف الخبز! وهكذا فليكن التلاحم بين القيادة والشعب فهي تحس بكل آلامه!، فليست الإمامة لذلك أو لإطعامهم كالبهائم فطالما وجد العلف فالجميع راض مطمئن فإذا شح ثار الناس وانتفضوا!، وإنما الإمامة منصب ديني تقام به الأديان وتساس به الدنيا فلا صلاح لها إلا بصلاح الدين الذي فسد في كثير من أمصار المسلمين.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير