ومثل هذا الكلام تشتمّ منه رائحة العصبيّة المقيتة، ولا يصدر اليوم إلاّ عمّن لا يريد الخير لأمّته، وإلا فكثيرٌ من علماء اللغة والنحو والطبّ والفلسفة والدين والاجتماع وكثيرٌ من أدبائنا وشعرائنا ليسوا في أصولهم عرباً، فهل ننسلخ عنهم ونتّبرأ من إبداعهم وإن كان بالعربيّة! ألم يذب هؤلاء في معين الثقافة العربيّة، فأصبحوا جزءاً من هذه الأمّة وتراثها!.
والفرق بين الكاتب الذي يبدي حرصه على عروبته وعروبة لغته وبين هؤلاء العلماء (الأعاجم) = أن الأوّل شديد الهزء بلغته وقواعدها، بل تراه يمسك بتلابيب أشعر شعرائها قديماً ليسخر من شعره ومن صوره الفنيّة (8)، أمّا هؤلاء الذين يهاجمهم فقد تغنّوا بالعربيّة وبُهروا بها، ورأوا فيها سحراً، ألم يستمع إلى ابن جنّي- وهو العالم اللغوي الروميّ الأصل الذي بهرت آراؤه في اللغة المعاصرين- وهو يقول: "إنني إذا تأملتُ حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدتُ فيها من الحكمة والدقّة والإرهاف والرقّة ما يملك عليّ جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر" (9).
ثمّ من ذا الذي يصدّق أنّ رجلاً بمفرده كسيبويه له مقدرةٌ على وضع قواعد للغة مترامية الأطراف كالعربيّة، وما من عذر للكاتب إلا جهله بتاريخ النحو العربي ومعرفة المراحل التي مرّ بها حتى انتهى إلى سيبويه، ولعلّه لو تصفح كتاب هذا الأخير لعرف أسماء بعض العلماء الذين صيغت على أيديهم قواعد العربيّة.
ومن يصدّق أيضاً أنّ كتاب سيبويه وضع للأعاجم كي لا يلحنوا في لفظ الكلمات، أم تراه يظنّه من كتب (لحن العامّة)، ونعذره مرّة أخرى لأنّه كما أسلفت لم يطّلع على هذا الكتاب ولا على كتب لحن العامّة، ولا يعرف شيئاً عن مضامينها.
5 - القرآن الكريم لم يكن يتّبع قواعد سيبويه، أو بعبارة أخرى وهي له أيضاً: لم يخضع لقواعد سيبويه (10).
وسوف ننتظر أيضاً ما كتبه في الفصول اللاحقة لنرى إن كان لديه برهان ما يقول.
6 - إنّ قواعد العربيّة تقوم على الشكل والاهتمام بحركات أواخر الكلمات، دون الالتفات إلى المضمون.
ولم يسأم الكاتب من تكرار مثل هذا الكلام في أكثر صفحات كتابه (11)، ويكفي أن أسوق ههنا مثالاً واحداً يستبين منه قصده، وذلك قوله: "عندما رصد سيبويه وأتباعه كلام العرب كقولهم: "في القوم عالمٌ" وجدوا "عالم" مرفوعة فلم يكن لهم خيار واعتبروها مبتدأ، وهكذا تتوالى التخريجات التي تعتمد الحركة الأخيرة للكلمة لا المعنى، وتعتمد الوهم لا الحقيقة". ولمّا كانت هذه الحركات خالية الدلالة عنده أعلن بما يشبه الصياح إنّه "ليستوي عندي إذا قلنا: كان أحمدُ فائزاً، أو قلت: كان أحمدَ فائزٌ. أو قلت: كان أحمدُ فائزٍ، أو قلت: كان أحمدْ فائز، ولا حاجة إلى رفع أو نصب أو جرّ " (12).
ولا يخفى أنّ الرجل ههنا دلّ على خبيئة نفسه ولم يستطع إخفاء ما يضمره من تجاوز هدم القواعد إلى هدم اللغة نفسها، لأنّ الحركات هي صنع المتكلّم لا النحويّ، ونحن لا يسعنا إلاّ أن نقبل منه قوله "ليستوي عندي"، فهو أمرٌ يخصّه وحده، وإلاّ فاللغة أكثر منطقيّة من هذه الفوضى التي ينادي بها، لأنّ حركات الأواخر لم تكن في يومٍ من الأيام أصواتاً تزيّن بها الألفاظ بل هي دوالُّ أو أدوات يُتوصّل بها إلى فهم مقاصد الكلام، فالرفع عند العربيّ –لا المؤلّف- علامة الإسناد (الفاعليّة والابتداء) والنصب علامة الفضلة (المنصوبات) والجرّ علامة الإضافة أو وجود حرف جرّ.
ولو كان الشكل أو حركة الأواخر سيطرا على أذهان النحاة ما وجدناهم يفرّقون بين أنواع المنصوبات، ويقولون: حال وتمييز ومفعول مطلق ومفعول لأجله ومفعول به ومفعول فيه .. وهي تقسيمات قوامها المعنى لا غير، ولما فرّقوا بين المرفوعات، وقالوا: مبتدأ وخبر وفاعل، ولما فرّقوا بين مجرورٍ بالحرف أو مجرورٍ بالإضافة.
ولو كانت حركة الأواخر هي التي صنعت الفكر النحوي لوجدنا النحاة يسلّمون بهذا الشكل لا يحيدون عنه، ولما احتكموا إلى المعنى، ولا أخذوا بقياسٍ أو سماع، نعم لو سلموا به لما اختلف حكمهم على الجار والمجرور في الآيات (وما ربُّك بظلاّم للعبيد ([فصلت: 46]، و (ما اتخذ الله من ولد ([المؤمنون: 91]، و (هل من خالق غير الله ([فاطر: 3]، و (ما جاءنا من بشير ([المائدة: 19].
¥