تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

اليسير من المال ترضية لصاحبه، فإن أبى أخذه حينئذٍ يطيب نفسه، يقول: أنا الذي عليَّ فَعَلْتُه، بل أذكر من مشايخنا رحمة الله عليهم أنه كان يؤتى بالطيب والبخور من أجل أن يعرف جيده من رديئه، فإذا كان لا يريد الشراء امتنع من شمه، ويتورع عن هذا؛ لأنه لا يستبيح أموال الناس إلا وعنده رغبة صادقة، كما أنه لا يحب من أحدٍ أن يأكل من ماله أو ينتزع من ماله وهو لا رغبة له، فلو علم البائع أنك لا تشتري هل يعطيك؟ لو علم البائع أنك لن تشتري لما أعطاك، فهو راضٍ أن يعطيك لكي تشتري، ولذلك هذا هو الذي جعله رحمة الله عليه يقول: لابد أن أعطيه شيئاً من المال؛ لأنه أعطاني على رجاء أن آخذ، ولو علم أنني لا آخذ لا يعطيني، فلما ذقت الشيء الذي منه ولم أرغب فيه، فإني أعطيه المال الذي أطيب به خاطره أو أقدره شيئاً يسيراً بنفس الشيء الذي ذقته أو شممته، فالورع في هذا أفضل، فالشخص الذي لا يريد أن يطعم فإنه يتقي مثل هذا، خاصةً طلاب العلم وأهل العلم، وطعمة الحرام لها أثر على عبادة الإنسان، فإن العبد يقذف اللقمة لا يلقي لها بالاً يمنعه الله بها القبول في الصلاة وفي إجابة الدعاء ويقسو بها القلب، حتى لربما وقع في شبهة، ولربما وقع في فتنة -نسأل الله السلامة والعافية- وما طابت أقوال السلف إلا لما طابت أعمالهم وزكت نفوسهم وزكت أجسادهم عن الحرام، ومن زَكّى جسده وروحه عن الحرام زَكّى الله قوله وعمله، والله تعالى يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14 - 15]، والزكاة الطهارة كما قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التوبة:103] فسميت زكاة لما فيها من الطهارة، فالذي يطهر نفسه عن أموال الناس يطهره الله عز وجل من تبعات الأموال، وقلّ أن تجد إنساناً جريئاً على مثل هذا إلا وجدت أثر الطعمة الحرام في قوله وفي فعله وسلوكه، فإن أراد أن يقصرها على نفسه اقتصرت عليه، وإن توسع في ذلك حتى أدخلها -نسأل الله السلامة والعافية- على أهله وولده فهو بشرّ الحال في نفسه وأهله وماله وولده، فالعبد يتقي الله عز وجل، فإن كنت لا تريد أن تشتري لا تدخل جوفك الطعمة، وتكون ناصحاً لأخيك المسلم، تقول: أنا لا أريد أن أشتري، قال لك: خذ، وتعلم أنه يجاملك، تعرض عنه وتقول له: لا أريد، وهذا هو أفضل ما يكون من طالب العلم وممن هو قدوة. وطالب العلم ينبغي دائماً أن يطبق العلم الذي يتعلمه على فعله، ومن هنا تجد العلماء رحمهم الله يقولون: العلم وبال على صاحبه فيما يضيّق عليه، ولكنه نعمة ورحمة فيما يئول إليه. (فهو وبال عليك فيما يضيق)؛ لأنك تعلم أنه لا يجوز لك أن تطعم هذا الشيء وأنت لا تريد الشراء، ولو كنت جاهلاً لطعمت، لكن بالعلم ضُيّق عليك، وجعل الله لك حسن العاقبة بسلامتك من أموال الناس. فالشاهد: أن العلم يضيق على صاحبه، ويتحمل به الأمانة والمسئولية فإذا كنت لا تريد أن تشتري فلا تأكل؛ لأن البائع لا يحب من أحد أن يطعم من ماله الذي يريد بيعه، والآخر لا يريد أن يشتري، فهذا أمر ينبغي للإنسان أن يتقيه. وهنا أيضاً مسألة أحب أن أنبه عليها وهي من الورع: في بعض الأحيان يأتي الشخص للعامل الموجود في المحل، ويأكل من العنب أو يأكل من الشيء الموجود من الخبز أو غيره ويستأذن العامل، والعامل ليس مالكاً للسلعة، وهذا ينبغي أن يوضع في الحسبان، حتى كان بعض مشايخنا رحمة الله عليه لا يقبل توصية العامل وزيادته ويتورع عنها، ويجعله يزيد فقط في قدر رجحان الميزان، وإذا جاء يزيد من عنده قال: المال مال غيره، وكما قيل في المثل: (الجلد جلد غيرك لا بأس إن جررت الشوك عليه)، فالعامل مأذون له أن يبيع ومأذون له أن يربح، وليس مأذوناً له أن يخُسِّر صاحب السلعة، فإذا كان الشيء فيه عرف وربّ المال قد أذن له فهذا شيء آخر، بل حتى والله أذكر منه -رحمة الله عليه- أنه كان يتورع عن الكيس من (النايلون)، يقول: هذا أذن له سيده وصاحب الدكان أن يعطيه لمن يشتري وأنا لم أشترِ، فيتورع عن كل شيء، وهذا يقتضي أن الإنسان ينتبه لحقوق الناس، سواءً كان عند ذوق الأشياء أو حين يأتي إلى شيء لا يريد شراءه فيقول للعامل: أعطني، والعامل إذا رآه استحى منه، أو ربما خاف منه؛ وهذا يعتبر من قلة الورع، لكن حينما تأخذ أموال الناس بحقها وتعطيها حقها

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير