وقول السقاف معلقا على قول ابن الجوزي المتقدم في تأويل المجيء والإتيان؛ قال: ((وقد ثبت كما قدمنا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أول قول الله تعالى: ? وَجَاءَ رَبُّكَ? بمعنى: جاء ثوابه؛ كما هو ثابت عنه بالإسناد الصحيح في (البداية والنهاية)): تعلق بما هو أوهى من ببت العنكبوت.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم لا يتأولون مجيء الرب بمجيء ثوابه؛ كما أنهم لا يتأولون الرحمة بإرادة الإنعام، ولا المحبة بالرضى أو علامة القبول، ولا الساق بالشاة، وما نقل عن أحمد رحمه الله فيما يخالف ذلك؛ كالذي نقله البيهقي وابن كثير، واحتج به الجهمي السقاف؛ يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: قيل: إن ذلك من رواية حنبل عنه، وحنبل ينقل عن أحمد رحمه الله ما لا ينقل غيره، بل ينقلون خلافه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ((مختصر الصواعق)) (ص: 395): ((إن حنبلا تفرد بها عنه، وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه، و إذا تفرد بما خالف المشهور عنه؛ فالخلال وصاحبه عبد العزيز لا يثبتون ذلك رواية، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية، والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع؟ فكيف في هذه المسألة؟!))
الوجه الثاني: قيل: إن الإمام أحمد رحمه الله قال ذلك على وجه الإلزام لخصومه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/ 75): ((إنما قال ذلك إلزاما للمنازعين له؛ فإنهم يتأولون مجيء الرب بمجيء أمره، قال: فكذلك قولوا: يجيء كلامه مجيء ثوابه! وهذا قريب)).
قال ابن القيم رحمه الله: (فأحمد ذكر ذلك على وجه المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه، لا أنه يعتقد ذلك، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به) ().
الوجه الثالث: أن يقال: إن ذلك وقع من أحمد ثم رجع عنه؛ لأن أكثر النقول عن أحمد رحمه الله مصرحة بعدم التأويل في جميع الصفات، بل كان ينكر على من يتأول شيئا من آيات أو أحاديث الصفات، ويزجر من يفعل ذلك، وربما هجره وهجر مجلسه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (5/ 401): ((ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول: إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك)).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله على رواية حنبل- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 391) -: ((وهذه رواية: إما شاذة، أو أنه رجع عنها؛ كما هو صريح عنه في أكثر الروايات، وإما أنها إلزام منه ومعارضة لا مذهب، وهذا الاختلاف وقع نظيره في مذهب مالك؛ فإن المشهور عنه وعن أئمة السلف إقرار نصوص الصفات والمنع من تأويلها، وقد روي عنه أنه تأول قوله: (ينزل ربنا)؛ بمعنى: نزول أمره، وهذه الرواية لها إسنادان:
أحدهما: من طريق حبيب كاتبه، وحبيب هذا غير حبيب، بل هو كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله.
والإسناد الثاني: فيه مجهول لا يعرف حاله.
فمن أصحابه من أثبت هذه الرواية، ومهم من لم يثبتها؛ لأن المشاهير من أصحابه لم ينقلوا عنه شيئا من ذلك)).
أفول: وهذا هو الحق؛ فإنه لا يشك من له معرفة بصناعة الحديث ومذهب مالك أن النقل عن مالك في تأويل النزول لا يصح، بل هو كذب مفترى , وأهل الباطل يتعلقون بمثل هذه الأباطيل، ويدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم على إثبات
إمرارها كما جائت مع فهم معناها وإثبات حقائقها.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في ((الفتاوى)) (5/ 401))
على الحكاية المنقولة عن مالك في تأويل النزول؛ قال رحمه الله:
((وكذلك ذكرت هذه رواية عن مالك رويت من طريق كاتبه حبيب بن أبي حبيب، لكن هذا كذاب باتفاق أهل العلم بالنقل، لا يقبل أحد منهم
نقله عن مالك، ورويت من طريق أخرى ذكرها ابن عبد البر، وفي إسنادها من لا نعرفه ... )).
والحاصل أن التأويل لا يصح عن الإمام أحمد ولا عن مالك، وليس
هو مذهباً للسلف، ولا يتعلق بما ينقل عن الأئمة- وهو إما خطأ عليهم، أو كذب، أو غير ذلك مما يشبهه-؛ إلا من في قلبه زيغ ومرض.
وقد أجاد العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى؛ حيث يقول- كما في ((مختصر الصواعق)) (ص 391) -:
¥