تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يقوي أن ابن القصار يقصد في هذا النص القياس الشرعي احتجاجه بقوله: والحجة له هي أن خبر الواحد لما جاز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص، ولم يجز على القياس من الفساد إلا وجه واحد؛ وهو أن الأصل معلول بهذه العلة أو لا. وصار أقوى من خبر الواحد، فوجب تقديمه عليه.

وهذا التعليل للقياس المقدم على الخبر لا يصدق إلا على القياس الشرعي. ويظهر أن هذا الرأي من ابن القصار هو معتمد من جاء بعده من المالكية الذين فسروا القياس المقدم على الخبر بالقياس الشرعي؛ لأن هؤلاء لم يلبثوا بعد أن ساقوا المذهب المقرر أن يوردوا الحجة نفسها. كابن رشد والقرافي ومحمد الولاتي.

وأنكر أبو المظفر السمعاني، ويربأ بمالك ومنزلته في العلم أن يصدر عنه مثل هذا القول. فقال معلقاً على هذه الرواية: وهذا القول بإطلاقه سمج مستقبح عظيم. وأنا أُجل منزلة مالك عن مثل هذا القول، وليس يدري ثبوت هذا منه.

وأنا أميل إلى ما ذكره ابن السمعاني. إذ الظاهر أن هذا القول لا تصح نسبته لمالك، وإن اشتهر بين الأصوليين، ويمكن الاستدلال على ذلك بما يأتي:

أولاً: جاء في المدونة التصريح بخلاف هذا المذهب. وذلك في المسألة أنه أملك بها ما دامت في عدتها، لورود الأخبار بذلك. إلا أن سحنوناً اعترض على هذا الجواب بقياس مفاده: أن النصراني لا يحل له نكاح مسلمة ابتداء. فأجابه ابن القاسم بقوله: جاءت الآثار أنه أملك بها ما دامت في عدتها إن هو أسلم. وقامت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم. فليس لما قامت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم قياس ولا نظر.

ويؤكد هذا قول مالك في العتبية: إن السنة تمضي ولا تعارض برأي.

ثانياً: أنه قد يتعذر على الباحث في فقه مالك أن يعثر على مسألة ترك فيها مالك خبر الآحاد بدعوى مخالفته للقياس

الشرعي.

ولعل هذا ما حدا بالشيخ محمد الأمين الشنقيطي إلى القول بعد سوق هذا المذهب: لكن فروع مذهبه تقتضي خلاف هذا. وأنه يقدم الخبر على القياس .... وهذا الذي يدل عليه استقراء مذهبه.

المبحث الخامس: تحقيق مذهب مالك في الخبر إذا خالف القياس:

لا يُنازع أحد في أن مالكاً كان في بعض الأحيان يرد الخبر بالقياس. ولكن النزاع في كون ذلك أصلاً من أصوله يجب تطبيقه على كل حادثة يتعارض فيها خبر الواحد مع القياس؛ وفي كون القياس الذي رد به الخبر قطعياً أو ظنياً.

والذي عليه المعول في هذه المسألة. وتصح نسبته إلى الإمام. ويتفق وإمامته في السنة ومكانته في الاجتهاد. ويصدع به محققو مذهبه؛ أن مالكاً رحمه الله لم يرد الخبر لمطلق القياس كما تشير إليه عبارة جمهور الأصوليين حتى من المالكية، وإنما رده بشرطين:

الشرط الأول: أن يكون القياس معتمداً على أصل قطعي، وقاعدة مقررة لا مجال للريب فيها. وهذا المبدأ مستقيم؛ لأن القياس المبني على قاعدة قطعية يكون قطعياً، وخبر الآحاد يكون ظنياً. وإلى هذا المبدأ أشار الشاطبي بقوله: الظني المعارض لأصل قطعي، ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال. ومن الدليل على ذلك أمران: أحدهما: أنه مخالف لأصول الشريعة. ومخالف أصولها لا يصح؛ لأنه ليس منها. وما ليس من الشريعة كيف يعد منها. والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته. وما هو كذلك ساقط الاعتبار. الشرط الثاني: أن يكون الخبر غير معاضد بقاعدة أخرى؛ أي بأصل آخر. فمتى توفر الشرطان معاً قُدم القياس على الخبر، لكون القياس حينئذ قطعياً، وخبر الآحاد ظنياً. والظني لا يُقاوم القطعي اتفاقاً.

والذي حقق هذه المسألة، وضبط أصلها؛ وحكم هذا الأصل في الفروع المأثورة عن الإمام، رافعاً بذلك التناقض الذي قد يبدو في بعضها؛ هو القاضي أبو بكر ابن العربي غير معاضد بقاعدة أخرى قطعية. ثم جاء شيخ المقاصد، أبو اسحاق الشاطبي، الذي أدرك نفاسة هذا الأصل، وأهميته في تأصيل فروع المذهب المالكي، والتقارب بين المتماثل من مسائله، وإزالة التنافر الظاهر من بعضها ... ، ليتمسك بهذا الأصل، ويُرجع إليه كثيراً من المسائل التي قيل إن المالكية تركوا فيها الأخبار لمنافتها للقياس.

فالإمام مالك – إذن – لا يترك خبر الآحاد إلا إذا لم يعتضد بأصل آخر. وعارضه في الوقت نفسه أصل قطعي. أو ما يعود إلى أصل قطعي. وهو القواعد المستخلصة من مجموع آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الصحيحة. أو بعبارة أخرى: ما ثبت بالاستقراء لنصوص الشرع وأحكامه في فروع مختلفة أنها قواعد مقررة ثابتة من غير شك ولا ريب.

وبهذا الأصل يصعب الإقرار بما تشير إلى ترجيحه عبارة القرافي في التنقيح، وهو تقديم القياس على خبر الآحاد على الإطلاق. بل الثابت أن القياس يُقدم على خبر الآحاد إذا اعتمد على قاعدة قطعية، ولم يكن الخبر معاضداً بقاعدة أخرى قطعية.

وبهذا يتجلى – أيضاً – أن القياس الذي يقصده مالك؛ هو القياس بمعنى القاعدة العامة؛ أي مجموعة الأصول الثابتة، والقواعد المرعية في الشريعة، والمستقاة من الأدلة المتضافرة.

وعلى ضوء هذا المنهج الذي سار عليه إمام دار الهجرة في العمل بالأدلة، يمكن تخريج الفروع التي أُثر عنه تقديم الخبر على القياس. والفروع التي أُثر عنه تقديم القياس فيها على الخبر.

وقد مثّل العلامة مولاي الحسين الحيان رحمه الله على تقديم الخبر على القياس بمسألتين هما: العرايا و المصراة.

ومثّل على تقديم القياس على الخبر بمسألة ولوغ الكلب في الإناء وقضاء من أفطر ناسياً في رمضان.

منقول

http://www.mmf-4.com/vb/t5088.html

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير