وليس الكلام في هذا. ولا خلاف في أن ذلك يُقدم على خبر الآحاد؛ لأنه أقوى ثبوتاً، لكون الثبوت فيه بالقطعي. وإنما الخلاف في القياس الظني المأخوذ من أصل قطعي.
واختار السيف الآمدي وتبعه ابن الحاجب والفهري من المالكية والكمال بن الهمام والمحب ابن عبد الشكور من الحنفية تقديم الخبر على القياس في الحالتين:
الحالة الأولى: أن تكون علة القياس منصوصاً عليها بنص مساوٍ في الدلالة لخبر الواحد أو مرجوح عنه.
الحالة الثانية: أن تكون العلة مستنبطة، فيُقدم الخبر على القياس مطلقاً.
ويُقدم القياس في حالة واحدة، وهي: ما إذا كانت العلة ثابتة بنص راجح على الخبر في الدلالة. وكان وجودها في الفرع مقطوعاً به. وأما إن كان وجودها مظنوناً، فالتوقف.
ونستطيع القول بعد استعراض هذه الأقوال أن القياس القطعي سواء كان أوليا أو مساويا فهو خارج عن محل النزاع. ومقدم على الخبر اتفاقا.
وأن القياس الظني منه ما هو خارج عن محل النزاع؛ وهو ما إذا كانت جميع مقدماته ظنية، وكانت علته ثابتة بطريق الاستنباط من أصل ظني. فإن الخبر مقدم عليه اتفاقاً.
المبحث الثالث: مذاهب الفقهاء في معرضة القياس خبر الآحاد:
المذهب الأول: ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى تقديم خبر الواحد إذا ثبتت صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على القياس مطلقاً.
(لم أذكر ما استدلوا به لأنه خارج عن مقصود البحث)
المذهب الثاني: ذهب عيسى بن أبان وأبو زيد الدبوسي وعامة متأخري الحنفية إلى اشتراط فقه الراوي لتقديم خبره على القياس.
وجعلت هذا المذهب خاصاً به وبأصحابه دون من سواهم. حتى اشتهر في سائر الكتب
أن تقديم القياس على الخبر مما انفرد به دار الهجرة عن سائر الأئمة.
المبحث الرابع: موقف المالكية من مخالفة الخبر للقياس:
يكتنف موقف المالكية من الخبر إذا خالف القياس غموض والتباس في أمرين:
أحدهما: النقل المضطرب عنهم في المسألة.
الثاني: مرادهم بالقياس: القياس الاصطلاحي أو القياس بمعنى القواعد والأصول.
الأمر الأول: التضارب في النقل:
أ- فالعراقيون من أصحابه يقولون: مشهور مذهبه تقديم القياس على الخبر.
حكاه ابن القصار عن مالك، ونسبه إلى بعض المالكية وانتصر له. ونص الباجي على أنه اختيار أكثر الأصحاب. وأبو العباس القرطبي في المفهم على أنه قول مالك في العتبية، وفي مختصر ابن عبد الحكم. ورجحه القرافي في التنقيح.
ب- أما المدنيون من أصحابه، فقد رووا عنه تقديم الخبر على القياس. وهو الذي ارتضاه الباجي في المنتقى والإحكام. والرهوني في تحفة المسؤول. وقوى القاضي عياض أنه مشهور المذهب ومعروفه.
وقال عنه أبو العباس القرطبي في المفهم: وهذا هو الصحيح من مذهب مالك وغيره من المحققين. وهو الذي نصره محمد الأمين الشنقيطي حين قال: والرواية الصحيحة عن مالك رواية المدنيين أن خبر الواحد مقدم على القياس ..... ومسائل مذهبه تدل على ذلك.
ج- وروي عنه أنه كان يُقدم على الخبر قياس الأصول. وهو القياس القطعي. واختار هذا من المالكية أبو بكر الأبهري.
هذا رأي الإمام مالك نفسه. أما الأصوليون من أصحابه، فقد اختلفوا في المسألة أيضاً:
أ- ذكر القرافي أن القاضي عبد الوهاب حكى أن خبر الآحاد إذا خالف الأصول قبله المتقدمون من المالكية.
ب- نقل الفهري عن بعض المالكية أنهم يُقدمون قياس الأصول على الخبر المخالف له. وإليه مال القاضي أبو الفرج وأبو بكر الأبهري وغيرهما من المالكية.
ج- حكى القاضي عياض في التنبيهات، وابن رشد في المقدمات قولين في مذهب مالك في الخبر المخالف للقياس: تقديم الخبر. وتقديم القياس. ومن شيوخ المذهب من يقول: إن في المدونة ما يدل على القولين معاً: تقديم الخبر. وتقديم القياس. أما ما يدل على تقديم الخب، فمسألة المصراة. وأما ما يدل على تقديم القياس، فمسألة ولوغ الكلب في الإناء.
الأمر الثاني: القياس الذي يقصدونه: القياس الشرعي. أو القياس بمعنى القواعد والأصول.
اختلط الأمر على الأصوليين في تحديد القياس الذي روي أن مالكاً يُقدمه على الخبر. ولعل أول من وصلنا منه كلام يفيد هذا المعنى أبو الحسن ابن القصار (ت 397هـ)
¥