تنوعت أوجه أداء قوله تعالى) فصرهن (من حيث الحركات، وهذا ما أظهره أهل القراءات، فبيَّن ابن مجاهد أصحاب كل قراءة فقال: ” قرأ حمزة وحده) فَصِرهن (بكسر الصاد. وقرأ الباقون:) فصُرهن (بالضم “ ([65]).
وأورد ابن زنجلة هذه الأوجه وحجّتها فقال:” قرأ حمزة) فصِرهن (إليك بكسر الصاد أي قطعهن وشققهن ومزقهن، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ يكون معناه فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن، فيكون إليك من صلة خذ. وقرأ الباقون) فصُرهن (بضم الصاد، أي أَمِلْهُن واجمَعْهُن. وقال الكسائي: وجههن إليك، قال والعرب تقول صِر وجهَك إليّ أي أقبل علي واجعل وجهك إلي. وكان أبو عمرو يقول ضمهن إليك، ومن وجه قوله فصُرهن إليك إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك ويكون معناه فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم قطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا “ ([66]).
المسألة الثانية: من أقوال المفسرين في هذه الآية
تنوعت أساليب أصحاب التفسير في الكشف عن المراد من هذه الآية الكريمة إلا أنهم لم يخرجوا عما أورده ابن زنجلة في قوله السابق.
فغالبهم يشير إلى معاني القراءات في قوله تعالى:) فصرهن (. فبكسر الصاد يكون معناها التقطيع والتمزيق، وبضمها يكون معناها الإمالة والجمع ([67]).
المسألة الثالثة: المعنى المستفاد من تنوع القراءات
يصدق على هذه المسألة ما أسلفته عن المسالة السابقة، فهي أيضا تعد برهانا ظاهرا يشهد على بلاغة القرآن الكريم وإيجازه. بحيث يكشف القرآن الكريم عن معاني الآيات الكريمة بصورة متكاملة لا نقص فيها، ويجيب عما يجيش في النفس الإنسانية من أسئلة قبل أن يطرحها صاحبها؛
فالآية الكريمة دلت على أن أمر الله سبحانه وتعالى الذي وجهه إلى سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام اشتمل على أمرين: أحدهما أن يأخذ أربعة من الطير فيمسكهن ويتأكد منهن ليميز كل واحد منهن عن الآخر، والأمر الآخر: أن يذبحهن و يمزقهن ويخلطهن ليتيقن من موتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا …
ولو كانت القراءة بوجه واحد لبقي السؤال في النفس عن القسم الآخر؛ فلو كانت القراءة بالضم فقط) فصُرهن (فإنها تفيد أن الأمر كان لسيدنا إبراهيم عليه السلام أن يجمعهن ليتأكد منهن، ولا تجيب عن القسم الآخر وهو أن الله سبحانه وتعالى قد أمره بذبحهن ليتأكد هو بنفسه عليه السلام من موتهن.
ولو كانت القراءة بالوجه الثاني فقط أي بالكسر) فصِِِِرهن (والتي تفيد الذبح والتقطيع، لبقي سؤال في الذهن هل قام سيدنا إبراهيم عليه السلام بذبح الطيور بنفسه وتأكد أنها قد فارقت الحياة.
وهذه المعاني الفياضة حواها تنوع يسير في أداء اللفظ القرآني، وهذا وجه من أوجه الإيجاز والبيان القرآني منقطع النظير.
الخاتمة
الحمد لله الذي مَنَّ علي بما لا أحصي من النعم، ويسر لي إنهاء هذا البحث، سبحانه إنه أهل الفضل الذي لا يحصى، وأهل العطاء الذي لا ينفد، فإن كان فيه سداد فذلك الفضل من الله، وإن كان فيه نقص وزلل فهذا حالي حال البشر.
وبما أن العادة جرت على أن تتضَمَّن الخاتمة أهم النتائج والتوصيات، فإنني لن أخرج عما رآه أهل العلم حسنا، فأقول:
إن القراءات القرآنية الكريمة المتواترة كلها في مرتبة واحدة من الرفعة إذ كلها ثابتة ومتلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتواترة، فلا ينبغي أن نرد شيئا منها، أو نُحَسِّن بعضها دون بعض.
وكل وجه من أوجه القراءة المتواترة هو بمثابة آية مستقلة في كمال بيانها، ولا تظهر حقيقة المعاني القرآنية في الآيات الكريمة بكمالها إلا بالجمع بين أوجه القراءات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأوجه تنوع القراءة في أي آية كريمة يعد من أهم الأمور التي تسهم في إظهار المعنى الشمولي للآية القرآنية.
وأوصي طلبة العلم أن تتضافر جهودهم لإظهار أثر القراءات القرآنية المتواترة في جميع الأوجه العلمية والبيانية والتفسير والإعجاز …
حاشية التوثيق
¥