وذكر ابن خالويه القراءات الواردة في هذه الآية الكريمة وبَيَّن وجه كل قراءة فقال: ” قوله تعالى) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً (يقرأ بكسر الخاء وفتحها. فالحجة لمن كسر أنهم أُمِرُوا بذلك، ودليله قول عمر: أفلا نتخذه مصلى فأنزل الله ذلك موافقا به قوله ([59]). والحجة لمن فتح أن الله تعالى أخبر عنهم بذلك بعد أن فعلوه “ ([60]).
وأسهب ابن زنجلة في بيان حجة أصحاب كل وجه حيث فقال: ” قرأ ابن عامر ونافع) وَاتَّخَذُوا (من مقام إبراهيم بفتح الخاء، وحجتهما أن هذا إخبار عن ولد إبراهيم صلى الله عليهم أنهم اتَّخَذُوا مقام إبراهيم مصلى وهو مردود إلى قوله] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخَذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً (. وقرأ الباقون:) وَاتَّخِذُوا (بكسر الخاء، وحجتهم في ذلك ما روي في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر فلما أتى على المقام قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم صلى الله عليه؟ قال: نعم. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله جل وعز) وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً (يقول: وافعلوا “ ([61]).
المسألة الثانية: من أقوال المفسرين في هذه الآية
اختلفت أساليب المفسرين في الكشف عن معنى هذه الآية الكريمة، ومن أشمل الأقوال في تفسيرها ما أورده أبو السعود حيث يقول:
”) وَاتَّخِذُوا من مقام إبراهيم مصلى (على إرادة قول هو عطف على جعلنا، أو حال من فاعله؛ أي وقلنا أو قائلين لهم اتَّخِذُوا الخ. وقيل هو بنفسه معطوف على الأمر الذي يتضمنه قوله عز وجل) مثابة للناس (كأنه قيل ثوبوا إليه وَاتَّخِذُوا الخ ... وقيل هي جملة مستأنفة. والخطاب على الوجوه الأخيرة له عليه السلام ولأمته ... والمراد بالمصلى إما موضع الصلاة، أو موضع الدعاء. روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال: هذا مقام إبراهيم. فقال رضي الله عنه: أفلا نتخذه مصلى؟ فقال لم أؤمر بذلك. فلم تغب الشمس حتى نزلت. وقيل المراد به الأمر بركعتى الطواف لما روى جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفة ركعتين. وقرأ) واتَّخَذوا (على صيغة الماضي عطفا على جعلنا أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يُصَلّون إليها “ ([62]).
وأسهب الجصاص في الاستشهاد على وجوب ركعتي الطواف ([63])، أما البيضاوي فأورد الأقوال السابقة وأشار إلى أن الإمام الشافعي له فيها قولان ([64]).
المسألة الثالثة: أثر القراءات في التفسير
إن القراءات المتواترة الواردة في هذه الآية الكريمة تعد شاهدا على بلاغة القرآن الكريم و إيجازه؛ حيث جمعت هذه القراءات جانبي المعنى، وكأن كل قراءة منهما آية مستقلة.
فالقراءة الأولى) واتَّخذوا (تدل على فعل الأمم السابقة، وهذا أمر قد جاءت في معرض المدح باستحباب فعلهم، فإن كانت الأمم السابقة اتخذت هذا المقام مصلى فالأولى بنا ونحن أمة النبي صلى الله عليه وسلم أن نتخذه مصلى أيضا، وفقا لقول الله سبحانه وتعالى:
) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ((68: آل عمران).
والقراءة الثانية) واتَّخِذوا (تدل على أمر الله سبحانه وتعالى هذه الأمة باتخاذ مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام مصلى.
وهذا المعنى المتكامل لهذه الآية بالإشارة لما سبق من فعل الأمم وأمر هذه الأمة لم يكن ليظهر بهذا الكمال لو أن القراءة كانت بوجه واحد. فتنوع اللفظ أدى ما تؤديه عبارات، وليس هنالك أوجز وأدل على المعنى من ذلك.
المبحث السادس: قوله سبحانه وتعالى:
) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [(260: البقرة).
المسألة الأولى: القراءات الواردة في هذه الآية الكريمة:
¥