تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وطبّق الطبري منهجه في الجمع بين المأثور والمعقول، في تصديه لتفسير معاني الآيات القرآنية، فمثلاً جاء في 1/ 48: القول في تأويل قوله تعالى: (العالمين (في سورة الفاتحة، قال أبو جعفر: "والعالمون جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش .. والعالم: اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منهم عالم ... فالإنس عالم، وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان، والجن عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منهم عالم زمانه" ... وهذا القول الذي قلناه قول ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامة المفسرين. ثم ذكر أقوالهم.

أما السيوطي فاقتصر على إيراد الآثار المختلفة، دون تعرض لشيء من التأويل، فكان تفسيره في ذلك أقل مستوى من تفسير الطبري، ومنهجه الذي سار عليه جميع المفسرين، ففي تفسيره (العالمين (في المثال السابق أورد عشر روايات عن ابن عباس وسعيد بن جبير وجابر بن عبد الله ومجاهد وغيرهم، مفسرين العالمين، بقولهم: "الجن والإنس".

ويظهر من ذلك أن هناك اتفاقاً بين الطبري والسيوطي في التفسير بالمأثور ويزيد الطبري عن السيوطي أنه ضم إلى ذلك التفسير بالمعقول. ويتضح الفرق بينهما في مثال آخر في تفسير قوله تعالى: (من يَهْدِ الله فهو المهتدِ، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً (. (الكهف: 17). وهو مما قد يوهم أن الإنسان مسير لا مخير، فلا نجد السيوطي في موقع تفسير هذه الآية (4/ 391). يأتي بشيء فيها، لعدم وجود الآثار في ذلك، بينما الطبري (في 15/ 141) يقول في تفسيرها:

يقول الله عز وجل: من يوفقه الله للاهتداء بآياتهِ وحججهِ إلى الحق التي جعلها أدلة عليه، فهو المهتدي، يقول: فهو الذي قد أصاب سبيل الحق، ومن يضلل يقول: ومن أضله الله عن آياته وأدلته، فلم يوفقه للاستدلال بها على سبيل الرشاد، فلن تجد له ولياً مرشداً، يقول: فلن تجد له يا محمد خليلاً، وحليفاً يرشده، لإصابتها؛ لأن التوفيق والخذلان بيد الله، يوفق من يشاء من عباده، ويخذل من يريد، يقول: فلا يحزنك إدبار من أدبر عنك، من قومك وتكذيبهم إياك، فإني لو شئت هديتُهم، وبيدي الهداية والضلال.

مما سبق يتبين أن الله قادر على خلق الهداية والضلال في كل إنسان، لكنه سبحانه ترك الخيار للناس في اختيار الإيمان أو الكفر، بمقتضى عقولهم، واسترشادهم بهدي الله في كتبه السماوية، وعلى أيدي أنبيائه، فمن قصَّرَ وأهمل البحث لمعرفة طريق الحق والإيمان، فهو المؤاخذ على ضلاله، ويتركه الله في غيه وانحرافه، ومن بحث وتوصل إلى طريق الإيمان والحق، زاده الله هدى بتوفيقه في الكشف عن منارات أخرى للهداية أتم وأشمل، وأدق وأحكم، للاستمرار أو للثبات على منهج الحق، فاستحق هذا التأييد والعون، بعد اختياره أصل الهداية، وأما الأول فلم يستحق التوفيق (أي الهداية) في الآية المذكورة، فكان عاصياً كافراً؛ لأنه لم يختر بنفسه أصل الهداية أو الدلالة على وجود الله ووحدانيته والإيمان بما أنزل الله في كتبه. ومن المعلوم أن الهداية في القرآن نوعان: هداية عامة وهداية خاصة، والأولىهي الدلالة، وتشمل هداية الحواس والعقل، والدين، والثانية هي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة.

والخلاصة: أن السيوطي يعد بحق إمام المائة العاشرة، بل والتاسعة وما بعد ذلك في التفسير بالمأثور، فقد وفَّى الموضوع حقه، وكان تفسيره شاملاً محيطاً بجميع الروايات الواردة، كما أن تفسيره يعد مجالاً رحباً لتخريج شامل وافٍ للأحاديث النبوية والآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين في قضايا دينية كثيرة.

ولكن ينقص كل ذلك التصحيح والتضعيف فيما لم نجد فيه رواية في الكتب الصحيحة، كما أن العزو إلى كتب السنة وتخريج ماجاء فيها يحتاج أيضاً لتوثيق وتدقيق. ولا يطمئن الباحث أحياناً إلى هذا الحشد من تعداد أسماء المخرِّجين إلا بعد الرجوع للمصادر الأصلية التي ورد فيها الحديث والأثر، وهذا يساعدنا على تنقية مصادرنا من الروايات الموضوعة أو الضعيفة أو الإسرائيليات، والأخبار غير الموثوقة أو غير المعتمدة على نقل ثابت صحيح.

(*) ـ أستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق ... وضع مجموعات من الموسوعات في علوم الفقه والأصول والتفسير ...

المصدر:

مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 51 - السنة 13 - نيسان "أبريل" 1993 - شوال 1413

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير