وهي التي تمثل الناحية الدينية في الجزيرة ومن ثم كان بحث الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـعن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة، وتكفل لها الحرية، ويتاح لها فيها أن
تخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة» (1).
ومن ثم فقد كانت هجرة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى المدينة بقصد توفير الجو المناسب لاستمرار الدعوة ونموها وانتشارها.
* الهجرة إلى المدينة مسبوقة بالهجرة إلى الحبشة، ولم يكن ذلك فرارا من اضطهاد الكفار للمسلمين في مكة، ذلك أن الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا من ذوي العصبيات الذين لا يخشون شيئا على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، في حين أن من بقي بمكة هم الضعفاء الذين لا يجدون من يحميهم. ومن ثم يكون لهذه الهجرة أسباب أخرى على الفرار من الاضطهاد، وهذه الأسباب حصرها سيد قطب في عاملين رئيسيين:
1 - هز الشعور القبلي لدى الكفار، بفراق أبنائهم، وبناتهم لهم، وفي ذلك ما يوحي بعجزهم عن حمايتهم، وهذا يؤثر في العربي الجاهلي الذي يعيش في وسط قبلي تسيطر عليه علاقة الدم: «وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش، وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم فرارا من الجاهلية، تاركين وراءهم كل وشائج القربى في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا، وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم الجاهلية وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة، وصاحبها» (1).
2 - البحث عن قاعدة جديدة تسمح للدعوة بأن تستمر وتنتشر حيث كانت «الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة، ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلى ثورة البطارقة عليه كما ورد في روايات صحيحة» (1).
ولعل اتجاه الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى الطائف ما هو إلا محاولة أخرى لإيجاد قاعدة حرة لانتشار الدعوة، ولكن أهل الطائف الظلمة الكفرة آذوا رسول الله، وأهانوه بأن سلطوا عليه سفهاءهم يسبونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين. وفي هذه الحادثة ما يوضح أن الدعوة تحتاج إلى داعية جلد صابر محتسب، غير متعجل للنتائج، معلق الأمال على الله، لا ينازعه أدنى شك في نصر الله - سبحانه- لدعوته، وبيانه للحق وإزهاقه للباطل ولو بعد حين.
* بعد هذه الشدائد والأزمات، أتى الفرج من عند الله - سبحانه- فتح على رسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ ببيعة العقبة الأولى والثانية، وهي متصلة اتصالا وثيقا بالملابسات المواكبة للهجرة إلى المدينة «بعد ذلك فتح الله على الرسول وـ صلى الله عليه و سلم ـعلى الدعوة من حيث لا يحتسب، فكانت بيعة العقبة الأولى ثم بيعة العقبة الثانية وهما ذواتا صلة قوية بالموضوع الذي نعالجه في مقدمة هذه السورة وبالملابسات التي وجدت حول الدعوة في المدينة» (1).
2 - المحور المزدوج لسورة البقرة:
بعد ذلك يتحدث سيد قطب عن المحور المزدوج لسورة البقرة، فيحدد مكونات الخط الأول من خطى المحور. وكذلك يفعل بالنسبة للجانب الثاني. وفي النهاية يتحدث عن خاتمة السورة، ويلاحظ الترابط النسقي الموجود بين البداية والنهاية، وهو ترابط بديع جعل السورة رغم وفرة واختلاف موضوعاتها تشكل وحدة شاملة ومتكاملة، إنه الأسلوب الرباني الخالص الجمال، الفاتن الروعة، المحكم السبك، قد حاكها في أسلوب بياني مبدع ومعجز.
الخط الأول: موقف اليهود من الدعوة الإسلامية في المدينة، ومواجهتهم للرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ وصحبه، وتحالفهم مع الكفار والمنافقين ضد الدعوة قصد إجهاضها.
الخط الثاني: موقف الجماعة الإسلامية في أول نشأتها، وطرق إعدادها، وتكوينها لتحمل مسئولية تبليغ الدعوة ونشرها، ومسؤولية الخلافة في الأرض التي تخلى عنها بنو إسرائيل، كما أننا نواجه في السورة تحذيرا للجماعة الإسلامية من الآثام والمعاصي، والانحرافات التي حرمت بني إسرائيل من هذا الشرف العظيم، شرف الخلافة في الأرض.
¥