تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكرَّمه بالفَتْحِ حتى يَتَغلَّب. فلّما ثَبَتَ عليها وتأيَّد (19)، وتأَثَّل فيها وعَمَر، نَظَر إلى معروفها فاعتَبَر، وهجَم على مَجهولها فاستنكَرَ، فكأنَّهُ من يومئذٍ حادَ (20) عن النهج الذي لا يخَتلّ، ومَرَق من الهَدْي الذي لا يتبدّل. ابتُليَ من يومئذ فتَمرَّس (21)، وأُسلِم لمَشِيئته فتحيَّر. جارَ وعَدَل، فعَرف وجرّبَ. أخطأَ وأصاب، ففكّر وتدبر. نزع (22) إلى النهج الأوّل، فأخفَق وأدرك. تاق إلى الهدي القديمِ، فأعْطِي وحُرِم. احتَفر (23) ذخائر الفِطرة، فأَكْدَت عليه تارَةً ونَبَعْت. التمس شواردَ الإتقان، فنَدّتْ (24) عليه مرَّةً واستقادتْ. وإذا كلُّ صُنْعٍ يتقاضاه حَقُّ إحسانِه، وكلّ عملٍ يَحنُّ بِه إلى قرارِة إتْقانه. فعندئذ حاكَ الشكُّ في صدْر اللاحقِ، حتى قَدَح في تمام صُنْع السَّابِقِ، فَاسْتدرَك عليه. وقلِقَ الوارثُ، حتى خاف تقصيرَ الذاهب، فاستنكفَ الإذعانَ إليه. فكذلك جاشتْ نفسُه (25)، حتى انْدفقت صُبابةٌ منها فيما يعمل، وتَضَرَّمَ قلبُه، حتى ترك مِيسَمه (26) فيما أنشأ فَتَدَلَّهَ بصُنْع يديْه، لأنّه استودعه طائفة من نفسه، وفُتِن بما اسْتَجَاد (27) منه، لأنه أفْنَى فيه ضِراماً من قْلبه. ِ وإذا هو يَسْتَخِفُّهُ الزَّهْوُ (28) بما حَازَ منه ومَلَك، ويُضنِيه الأَسَى عليه إذا ضاع أوْ هلَك. هذا هُوَ الإنسان وعملُه. فإذا دبَّت بِينَهما جَفْوة تَخْتل (29) النَّفس حتى تَمَلّ وتَسْأم، أوْ عَدَتْ اليهما (30) نَبْوة تُراودُ القلبَ حتى يَميل ويُعرضَ، انطمستْ عندئذٍ أعَلامُ (31) النهج الأوّل، وركدتْ بَوارقُ (32) الهدْيِ المُتقادِم، وبقي الإنسانُ وحيداً مَلُوماً محُسوراً لا يزال يسْأل نفسَه: فيمَ أعملُ؟ ولم خُلِقت؟ وفيَم أعيش؟ فما يكون جوابُه إلاَ حَيْرةً لا تَهْدَأ، ولهيباً لا يَطفَأ، وظَلاماً لا يَنْقِشع. * * * بل حَسْبي وحسُبك. فلقد خشيتُ أن تقول لي: إنّما أنتَ تحدّثني عن الفنّ، ـ فهذه صفِة أهله ـ لا عن العمل، فليس هذا من نَعْتِه! وكأنّي بك قد قلتَ: إنَ الفنّ تَرَفٌ مُسْتَحْدَثٌ، أما العمل فشقاء مُتَقادِم. هذا مّما تَعجَّله الإنسانُ وعاناهُ لقَضاء حاجته، وذاك مّما تَأنَّى فيه وصافَاه (33) للاستمتاع بلذّته. والإنسان إذا جوَّدَ العمل، فمُنْتهَى هَمِّه أن يجعلَه على قضاِء مآرِبه أعْوَنَ، أو يكونَ له في أسباِب معيشته أنَجح وأربح. أمّا الفنّ، فَثَمَرة لغَير شجرته، يَسْقيها متأنِّق (34) من ينابيعَ ثرَّةٍ في وُجْدانه، وينْضجُها مشغوفٌ بِلاعجٍ منْ وَجْده وافتتانِه، في غير مَخَافةٍ مَرْهوبة، ولا مَنْفعة مَجْلوبَة، فذاك إذن بطبيعته مستهلك مُمتَهن (35)، وهذا لحرمة نَشْأته مَذْخورٌ (36) مُكرَّم. وأقول: بل أنت تحدّثني عن الإنْسان وقد فَسَق (37) عن تِلاد فطْرته، واسَتْغَواه (38) الشُّحّ حتى انْسلخ من ركاز جبلَّتَه. غَرَّهُ ما أُوتيَ من التدبير، فاقتحم على غَيْب مُدَبَّر، يَعْتسفُه بسَفاهة جُرأته. واستخفّه ما أُعين به من المَشيئة، فهجَم على خْيرٍ مبذول، يستكثِر منه بضَراوة (39) نَهْمَته. فانْبَتَّ من يومئذ في فَلاة مَطْموسة بلا دَليل، يَظلُّ يكدح فيها كدْحًا حتى يُنادَى للرَّحيل! جَاء مُيسَّراً لشيء خُلقَ له، فظلمه حقَه حتى عَضِل (40) بأمره فتعسَّر، وهُديَ مسددًا إلى غاية، فَغَفل عنها حتى تبدّد خَطوه واختلّ. ولو دانَ الإنسانُ بالطاعة لِفطْرته المكنونة فيه منذُ وُلِد، لأفْضى إلى خَبْئها (41) التَّليد إذا ما اسْتوىَ نَبْتُه واستحصَد. ولصارَ كلّ عمل يَعْتَمِلُه (42)، تدريبا لما استْعَصى منه حتَّى يلينَ وَيْنقادَ، وتهذيباً لما تراكم فيه حتى يَرِفَّ (43) ويتوهَّج. فإذا دَرِب عليه وصَبَر، أزال الثرى عن نَبْعٍ مُنْبِثق، فإذا ألحّ ولم يَملَّ، انشَقَّت فطرتُه عن َفْيضٍ متدفّق. ويومئذ يُسْفر (44) لَعينيه مَدَب ُّالنَّهجِ الأوّل، بعد دُرُوسه وعِفائه، ويَسْتَشْرِي في بَصيرته وَميضُ الهَدْي المتقادِم، بعد رَكْدته وخفائِه. وإذا كلّ عملٍ يَفْصم عنْه مُتْقَنًا، وكأنّه لم يجْهد في إتْقانِه، وإذا هو مُشرفٌ فيه على الغاية، وكأنه مسلوبٌ كلّ تدبيٍر ومَشِيئة، ولكنّه لايَفْصمُ عنه حين يفصِم، إلاّ مَطْويًا على حُشاشةٍ (45) من سِرّ نَفْسه وحياته، موسوماً بلَوْعَةٍ مُتَضرمة، على صَبْوَةٍ (46) فَنِيتْ في عِشرته

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير