الحيوان عند البيع والإجارة, وسائر وجوه التمليكات يحتاج فيه إلى معرفة سنه ولونه وعمله, ثم يفتقر فيه إلى معرفة عيوبه فنفى الله سبحانه وتعالى عن تلك البقرة كل عيب بقوله ?لاَّ شِيَةَ فِيهَا? فجمع فى هذه الآية جميع وجوه الوصف, فإنه فى الأول وصف سنها, وفى الثانى وصف لونها, وفى الثالث وصف خلقها وعملها ... ومن هذا الباب فى القرآن كثير لا يحصى, وكذلك السنة النبوية, وكذلك الشعر ... " ()
ويكاد النقاد يجمعون على أن أجود الوصف هو الذى يستطيع أن يحكى الموصوف حتى يكاد يمثله عياناً للسامع, وذلك بأن يأتى الشاعر بأكثر معانى ما يصفه وبأظهرها فيه وأولاها بأن يمثله للحس. ولذا قال بعض النقاد: أبلغ الوصف ما قلب السمع بصراً" (). ومن خلال كلام البلاغيين والنقاد يلاحظ عدة أمور: أولاً: الوصف ذكر الشئ بأحواله وهيئاته. ثانياً: أجود الوصف ما اشتمل على أكثر المعانى التى يتركب منها الموصوف.ثالثاً: أحسن الوصف هو الذى يستطيع أن يحكى الموصوف حتى يكاد يمثله عياناً للسمع فيقلب السمع بصراً. وكلام النقاد وإن كان حول الوصف كغرض من أغراض الشعر إلا أنه تحديد دقيق لهذا الفن من فنون الكلام؛ ولهذا أخذ به ابن القيم وطبقه على بعض آيات القرآن موضحاً أنه كثير فى القرآن, والسنة, وكلام العرب, وما يعنينا هنا هو فن "الوصف فى الحديث الشريف". وسيتضح لنا إن شاء الله تعالى أن فن الوصف فى الحديث الشريف ينطبق عليه ما ذكره البلاغيون والنقاد حول تعريفه, كما سيتضح لنا أثره فى بلاغة البيان النبوى. ومما يتصل بالبحث بيان العلاقة بين الوصف والتصوير.
المبحث الثانى: العلاقة بين الوصف والتصوير: "الوصف وسيلة من وسائل التصوير المتعددة, فلقد اعتمد العرب على وسائل كثيرة فى التصوير منها ما كان واضحاً عندهم تمام الوضوح كالتشبيه والاستعارة والكناية, وبعضها لم يكن واضحاً فى نتاجهم الأدبى كالوصف, والقصة, والتجسيم, والتشخيص, والموازنة, والإشارة, والرسم" (2). وهذه الوسائل نراها بوضوح وجلاء فى البيان النبوى, فالنبى صلى الله عليه وسلم أوتى جوامع الكلم, وأدبه ربه فأحسن تأديبه؛ ولهذا لم يغفل البيان النبوى فى تصويره الدقيق هذه الوسائل (3) " والمتتبع للآثار النبوية يجد صورها الفنية من أحسن المثل لما تنجذب إليه النفوس من القول لما فطر عليه صلى الله عليه وسلم من معرفة عناصر التأثير فى البيان وأوجه الجمال فى اللسان, فجاء حديثه النبوى من البلاغة العالمية فى موضع تتطلع نحوه الأبصار, وتتقاصر دونه الأعناق (1)
أما عن العلاقة بين الوصف والتشبيه: " فالوصف قريب من التشبيه إلا أن الفرق بينهما أن التشبيه مجاز, والوصف راجع إلى حقيقته وذاته" (2). أما عن الخيال ودوره فى التصوير, فالحديث عنه وعن علاقته بالوصف من الأهمية بمكان ونحن فى سياق الحديث عن الوصف فى البيان النبوى.
المبحث الثالث: العلاقة بين الوصف والخيال:
" الكلام فى وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة الأساليب البيانية إنما هو باب من الأحلام إذ لابد فيه من عينى أو نظرة عاشق, وهنا نبى يوحى إليه فلا موضع للخيال فى أمره إلا ما كان تمثيلاً يراد به تقوية الشعور الإنسانى بحقيقة ما فى بعض ما يعرض من باب الإرشاد والموعظة ... فعمله أن يهدى الإنسانية لا أن يزين لها, وأن يدلها على ما يجب فى العمل لا ما يحسن فى صناعة الكلام, وأن يهديها إلى ما تفعله لتسمو به لا إلى ما تتخيله لتلهو به. والخيال هو الشئ الحقيقى عند النفس فى ساعة الانفعال والتأثر به فقط, ومعنى هذا أنه لا يكون أبداً حقيقة ثابتة فلا يكون كذباً على الحقيقة, ثم هو صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس بتصل بالطبيعة ليستملى منها, بل هو نبى مرسل متصل بمصدرها الأزلى ليملى فيها ... " (3).
" فوجود الخيال فى الحديث النبوى أمر غير متوقع إلا عندما يكون مصدراً للتشبيه والتمثيل والتصوير ... " (4) فالوصف النبوى الذى يعتمد التصوير الذى يعتمد بدوره الخيال يأتى فى أعلى درجات الصدق, وعلى ذروة سنام البلاغة لأنه متصل بهذه النفس الصافية التى تربعت على قمة السمو الروحى , وهذا يدفعنا للحديث عن الخيال كطريق من طرق التعبير عن المعانى الصادقة , والتصورات المعقولة طالما نتحدث عن الخيال وصلته بفن الوصف فى البيان النبوى.
¥