" إن إطلاق لفظ التخيل أو الخيال فى صدد الحديث عن المعانى الصادقة, والتصورات المعقولة لايحط من قيمتها أويمس حرمته ابنقيصه, فإن علماءالبلاغة أنفسهم قد أطلقوه على مايأتى به البليغ فى الاستعارة المكنية () من الأمور الخاصة بالمشبه به ويثبته للمشبه فقالوا: الأظفار أو إضافتها فى قولك: أنشبت المنية أظفارها" () تخييل أو استعارة تخيليية, وأطلقوه فى الفصل والوصل حين تكلموا على الجامع بين الجملتين وقسموه إلى: عقلى, ووهمى, وخيالى , وأطلقوه فى فن البديع على تصوير ما سيظهر فى العيان بصورة المشاهد, ولم يبالوا أن يضربوا لجميع تلك المباحث أمثلة من آيات الكتاب العزيز , وغيره من الأقوال الصادقة.
" ولقد كان من أساليب القرآن فى الدعوة أن ضرب الأمثال الرائعة, وصاغ التشابيه الرائقة, والاستعارات الفائقة, والكنايات اللطيفة, ويضاف إلى ذلك ما كان ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأقوال الطافحة بضرب الأمثال والاستعارات والكنايات التى لم تخطر على قلب عربى قبله فكان مطلع الإسلام مما زاد البلغاء خبرة فى تصريف المعانى وترقى بهم فى صناعة التخييل " () " والوصف الدقيق النابع من البصيرة النافذة, وحسن الإدراك, والتدفق العاطفى أبلغ من التشبيه أو الاستعارة أو الكناية أو الوسائل المألوفة فى التصوير, إنه ينقل لك أمام عينيك المشهد حتى تكاد تحس به بحواسك وتلمسه بيديك" (). وسيتضح لنا من خلال التطبيق أن الوصف النبوى من أبرز المقومات الحيوية المباشرة فى إقامة الصورة " (3)
المبحث الرابع: تنوع الوصف فى البيان النبوى
استخدم النبى صلى الله عليه وسلم " الوصف" لأجل تعليم الناس وإرشادهم إلى ما يقربهم إلى ربهم ولبيان حقائق الدين, كما استخدمه فى تحذيرهم وتخويفهم مما يبعدهم عن جنابه ورحمته. والنبى صلى الله عليه وسلم داع إلى الله ومبشر, ونذير, ومبلغ عنه كما نطقت بذلك آيات القرآن, وأحاديثه صلى الله عليه وسلم. ومن هنا فلقد جاء فى البيان النبوى "الوصف" الذى يقلب السمع بصراً, والمعقول محسوساً, والمتخيل مشاهداً, ويحيط بالموصوف من جهاته المختلفة حتى يحكيه ويمثله للعيان. وهذه الناحية الفنية والبلاغية لا تتخلف فى أى موضوع من الموضوعات فى البيان النبوى, كما لا يلحقها الخلل أو الاضطراب فى أى ناحية من النواحى. فنجد فى البيان النبوى وصف الإيمان فى الأمور العقدية والقلبية, ووصف الصلاة والزكاة والذكر فى الأمور الحسية, ووصف الفتن والجنة والنار فى الأمور الغيبية إلى غير ذلك من ألوان الوصف التىسأشير إلى بعضها. وهذه اللوحات الوصفية مع تنوعها واختلاف موضوعاتها تأتى على درجة واحدة فى البلاغة لأنها خرجت من مشكاة النبوة (4) وسأتناول بمشيئة الله تعالى الوصف فى الحديث النبوى على ترتيب الكتب والأبواب فى الصحيحين مع تقديم تبويب البخارى نظراً لما فى تبويبه من الدقة والفقه وحسن الترتيب كما شهد بذلك المحققون من العلماء, وسأبين بعون الله ما ينطوى عليه الوصف النبوى من صور فنية, وأسرار بلاغية.
الفصل الثانى: الوصف فى الحديث النبوى من خلال الصحيحين
وصف النخلة وتمثيلها بالمسلم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها, وإنها مَثَلُ المسلم, فحدثونى ما هى؟ " فوقع الناس فى شجر البوادى, قال عبد الله: ووقع فى نفسى أنها النخلة فاستحييت قالوا: حدثنا ما هى يا رسول الله؟ قال: "هى النخلة" ().
فى هذا الحديث الشريف يضرب النبى صلى الله عليه وسلم مثلاً للمسلم, وفى ضرب الأمثال زيادة فى الإفهام, وتصوير للمعانى لترسخ فى الذهن. وهنا جاء الوصف معتمداً على التشبيه () حيث شبهت النخلة بالمسلم وجاء الوصف أولاً للنخلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها"
¥