وفي صدر الإسلام كان العرب يجعلون من الإيجاز عماد بلاغتهم وركن فصاحتهم، وكانت هناك عوامل مصاحبة مع قيام الدولة الإسلامية دعت إلى هذا المطلب البلاغي في لغتهم، إلى جانب أنه طبع وسليقة في اللغة العربية، وقد جاء أن الإيجاز طبيعة فبي الشعوب السامية التي تتصف لغاتها بأنها لغات إجمالية، تعتمد على التركيز والاقتصاد على الجوهر والتعبير بالكلمة الجامعة والاقتفاء باللمحة الدالة.
والإيجاز بعد أن كان روح وطبع لغوية صار للأهمية في تزيين الأسلوب اجتهاداً وروية وتدريبات، ويقول فيه الحكماء: "البلاغة علم كثير في قول يسير"، و"خير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يملّ"، وعمر رضى الله عنه يقول: "ما رأيت بليغاً قط إلا وله في القول إيجاز، وفي المعاني إطالة"، وهذا بعض ما جاء في الإيجاز من أقوال.
والإيجاز يسمى في بعض الأحيان بالاختصار، وقد يذكره بعض العلماء في كتبهم بالإشارة، وله تعريفات ومفاهيم مختلفة لدى أصحاب البلاغة واللغة، وأول من تعرض للإيجاز هو العسكري في كتابه "الصناعتين"، وقد عرف الإيجاز بأنه: "قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل".
وقال السكاكي: الإيجاز أداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف.
وعند الرماني: البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ، وقد قد جاء في تفسيره للإيجاز بقوله: إذا كان المعنى يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة، ويمكن التعبير عنه بألفاظ قليلة، فالألفاظ القليلة إيجاز.
أما الجاحظ فقد قال في ذكر في حقيقة الإيجاز: "الإيجاز ليس يعني به قلة عدد الحروف واللفظ، وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يسع بطن طومار فقد أوجز، وكذلك الإطالة وإنما ينبغي له أن يحذف بقدر ما يكون سببا لإغلاقه، ولا يردد وهو يكتفي في الإفهام بشطره، فما فضل عن المقدار فهو الخطل، أي يراد به حذف ألفاظ أو جمل من الكلام مالا يتسبب في إخلال المعنى أو التقصير فيها".
وفي الحقيقة أن الإيجاز كان له نصيب من الاهتمام لدى القدماء، فإلى جانب ما ذكرناه من أقوال وتعريفات يجدر منا ألا نغفل الإشارة ألي أن "أرسطو" قد ذكر الإيجاز في كتابه "الخطابة"، وكان مما جاء فيه: "واعلم أن الكلام ربما نفع إيجازه حين يراد الإفهام الوحي، ويوثق بتعقب الإقناع إياه لمعرفة حال السامع أو حال الأداء".
هكذا، وان تباينت بعض النظريات والمفاهيم في تعريف الإيجاز، إلا أنها كلها تتفق على دلالة الإيجاز في الكلام عن طريق الإيحاء، لتناوله للمعاني بصورة أوسع وأرحب حين يطلق سراح الذهن ويتجول فيها كيف شاء بدون قيود أو حدود، مادامت يتمكلها اللفظ بالتفسير أو التأويل.
ولا ينبغي أن يكون مقياس البلاغة في الإيجاز قله عدد الحروف فقط، بل عما يحمله اللفظ من معنى، وما يثيره من صور وأفكار، وقد يكون بذلك أدني إلي الفصاحة المتمة لصورة الإيجاز في البلاغة الحقيقية.
الإطناب:
الإطناب عند "السكاكي" هو: "أداء المقصود بأكثر من عبارات المتعارف". والإطناب في اللغة مأخوذ من: أطنب في الشيء إذا بالغ فيه. ويقول ابن الأثير:"فعلى مقتضى مسماه كان معناه المبالغة في إيراد المعاني، فبذلك كان الإطناب في الاصطلاح: هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة"، وعنده أن هذا الحد هو الذي يميزه عن التطويل إذ أن التطويل:"هو زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة".
وللتفرقة بين الإطناب وبين التطويل والحشو: نقول أولا أن التطويل أن تكون الزيادة فيها لغير فائدة وغير متعينة، كقول الحطيئة:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وهند أتى من دونها النأي والبعد
فإن "النأي والبعد" تطويل، لأن اللفظين بمعنى واحد ولم يتعين الزائد منهما، ولا المعنى يتغير بإسقاط أحدهما، فلا فائدة في الجمع بينهما. ثانيا الحشو: أن تكون الزيادة فيها لغير فائدة ومتعينة، وهو نوعان:
أ) حشو مفسد للمعنى
وذلك كقول أبي الطيب:
ولا فضل فيها للشجاعة والندى
صبر الفتى، لولا لقاء شعوب
¥