فكلمة "الندى" التي جاءت بمعنى الكرم فيها حشو مفسد للمعنى، فإن الشاعر أراد أنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر لولا الموت، وهذا صحيح، لأنهما من الفضائل لما فيهما من الإقدام على الموت، ولكن هذا لا ينطبق على "الندى"، فلو علم الإنسان بأنه يخلد في الدنيا وهان عليه اقتحام المخاطر واحتمالها، لما كان له في شجاعته فضل، وأما الندى فعلى العكس، فإن الموت يجعل البذل سهلاً.
ب) حشو غير مفسد للمعنى
وذلك كقول زهير بن أبي سلمى:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني على علم ما في غد عمي
يريد الشاعر أنه يعلم كل ما في الماضي وفي الحاضر، ولكنه يجهل ما يخبؤه المستقبل من أمور، وكلمة "قبله" جاءت حشوا، ولكنها غير مفسدة للمعنى، فقد جاءت حشوا لأنها زيادة متعينة لا لفائدة، لأن الأمس مفيد للقبلية، إذ هو اليوم الذي قبل هذا اليوم، وأنه غير مفسد لأن المعني لا يفسد بذكره.
ثانياً: أنواع الإطناب
وللإطناب أنواع، منها:
الإيضاح بعد الإبهام، وهو: أن يذكر المعنى مجملا مبهما، ثم يعاد ذكره مفصلاً موضحاً، كقوله تعالى:) فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (، فالوسوسة مبهمة مجملة، فصلت بالجملة بعدها: "قال يا آدم…" توضيحا وبيانا.
ذكر الخاص بعد العام، وهو للتنبيه على فضل الخاص، كقوله تعالى:) تتنزل الملائكة والروح فيها (، فلفظ الملائكة عام، والروح خاص، فالروح جبريل عليه السلام، وقد خص بالذكر بعد أن ذكر في جملة الملائكة لأنه واحد منهم، لشرفه وعلو منزلته.
ذكر العام بعد الخاص، وهو لإفادة العموم مع الاهتمام بشأن الخاص كقوله تعالى:) رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات (.
التكرير، وهو يأتي لأغراض بلاغية كثيرة، منها: تأكيد المعنى وتقريره في نفس السامع، كقوله تعالى:) كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون (.
الإيغال، وهو: ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها، منها الزيادة والمبالغة
وقد جاء أن الإطناب ضد الإيجاز من حيث الطول والقصر، وضد التطويل من حيث التطابق والتفاوت، وقد أشار أبو هلال إلى هذا بقوله: من استعمل الإيجاز في موضع الإطناب، والإطناب في موضع الإيجاز فقد أخطأ، والإطناب بلاغة، والتطويل عي.
والإيجاز حاصله يتفق على مدلول واحد، وهو التعبير عن المعاني بأقل ما يمكن من الألفاظ، وتتجلّى بلاغة الإيجاز وجماله في مكنون هذا المفهوم، من اجتلاب المعاني الغزيرة بأوجز وأقل الألفاظ.
ومعرفتنا بالإيجاز في اللغة العربية تتمثل في أنه يندرج تحت علم البلاغة على أنه فن من فنون علم المعاني، ويذكره العلماء دائماً مع الإطناب والمساواة، على أساس أنها أساليب للتعبير عن المعاني، وهذه حقيقة نعترف بها، إلا أن ما نورده في بحثنا هذا لفت الانتباه إلى أن الإيجاز في واقعه، لا ينحصر في صورته على أنه مجرد أسلوب، بل يتجاوز ذلك إلى جوانب أخرى في اللغة والبلاغة ذاتها، وهذه المجاوزة على ما تبدو، هي القصد من قولهم: "العربية لغة إيجاز".
وحقيقة الإيجاز في العربية، تشمل نواحي مختلفة ومتشعبة، كما رأيناه ظاهر في بعض الجوانب اللغوية والصوتية، والبلاغية، وكلها تدل على أن الإيجاز يشغل حيّزاً كبيراً من اللغة العربية، لما يحتويه من خصوصية في اللفظ وفي المعنى، وسعته في فن التصوّر ما لا يؤتى إليه غيره من الأساليب البلاغية الأخرى، وهي خواص امتاز وانفرد بها، ففضلته العرب وتفننوا في صياغة الكلام الموجز، وبلاغة الإيجاز تكمن في أنه رغم ما فيه من الاقتصاد فإن الألفاظ فيه أوقع والمعاني أبلغ.
والإيجاز في البلاغة العربية لا ينحصر في إطار معيّن، فنجد أن له الحظ الأكبر فيما تضمنته الأساليب البلاغية الأخرى كالتشبيه والمجاز والاستعارة والكناية وغيرها، واستجاب له مختلف الدواعي والأغراض لمختلف الأحوال والمقام.
الرماني
¥