ونعرف أن الكلام أو المتكلم متى كان بليغاً فهو فصيح ضمناً، فلا نرى ضيراً من تسمية الإيجاز الفصيح بالبليغ، لما يشمله البلاغة من فصاحة، ومن ذلك فلا يفوتنا التنبيه إلى أنه من متممات فصاحة وبلاغة هذا الإيجاز هو الوضوح، بل أنه يشكل شرطاً أساسياً وحداً من أدق حدود البلاغة في الإيجاز، وهذا معنى قولهم: "لمحة دالة"، في وصفهم الفصاحة في حد البلاغة، فالإيجاز لا يعد بليغاً إلا إذا توفر فيه وضوح المعنى أو المعاني في نطاق ألفاظ متخيرة جميلة موضوعة في إطار من الإيجاز والإيحاء.
وهذا الوضوح المفروض للمعنى يجب أن لا يتأتى عن طريق الإطالة والإسهاب، وإلا فقد حينئذ صفة البلاغة، بل ينبغي له أن يتم في حدود الإيجاز والتكثيف، وإذا عدنا إلى الأقوال التي قيلت في تحديد مفهوم الإيجاز، نجد أن ما جاء منها يقول: "الإيجاز هو البلاغة"، فلا غرو من أن المقصود هو الإيجاز الموحي والمكثف على وضوح وظهور، فالحد في البلاغة هنا يكمن في صوب الكلام ضمن حد أدنى من الإيجاز، على ألاّ يتعداه إلى الوقوع في الإبهام، الذي ينتج عدم تمكن السامع من الفهم.
وهذا يوازي ما سبق إليه "ابن جني" في عرضه للإيجاز حين اشترط له شرطين: أحدهما هو أن يكون الإيجاز مفيداً، فقد نبه إلى أن إفادة الكلام شرط لحسن الإيجاز، حتى لا يكون الكلام مخلاً بالمعنى المقصود بسبب هذا الإيجاز، فمن ذلك كان المقياس الجمالي والمتمم لبلاغة الإيجاز يشترط مع الحد الأقصى من الإيجاز حداً أقصى من الوضوح والإفادة، وهذا معنى قول القائل: "إصابة عين المعنى بالكلام الموجز".
خاتمة
وختاما ما يرمي إليه هذا البحث هو تحصيل صورة شاملة للإيجاز من مختلف الجوانب التي يتعرض لها في العربية، وبالتحديد عند علماء النحو واللغة في القرن الرابع الهجري وكان ذلك بإلقاء الضوء على ما قدمه الرماني وابن جني والباقلاني. وتحدثنا بعد عن الإيجاز من ناحية كونه أسلوب بلاغي ظاهر الأثر في بلاغة الكلام العربي، والإيجاز موضوع يزاحمه العلماء بغيره من الموضوعات في علم المعاني، ويشار إليه في نقاط متناثرة بين فنون البلاغة، فنجعل من هذه الإشارات دعائم في جمع مظاهر الإيجاز وأساليبه من الفنون العربية وأثره البارز فيما يضفيه من سحر وجمال على الكلام العربي، ليتوضح من خلال العرض والتحليل "بلاغة الإيجاز في العربية"، وتوضيح ما يتمتع به الإيجاز من حظ وافر فيما تضمنته بعض الأساليب البلاغية التي تتشكل بدورها لوناً من ألوان الإيجاز، كما يسعى البحث إلى توضيح أن الإيجاز لا ينحصر في كونه مجرد أسلوب للتعبير عن المعاني، بالإشارة إلى بعض الجوانب الذي ورد على أنه ضرب من ضروب الإيجاز؛ وذكر أقوال العلماء فيه.
المراجع:
1) أحمد شمس الدين – معجم الأدباء – دار الكتب العلمية بيروت – 1993م.
2) القاضي الباقلاني-إعجاز القرآن- على هامش (الاتقان للسيوطي) - المكتبة الثقافية-بيروت-لبنان-1973
3) الجاحظ – البيان والتبيين-تحقيق عبد السلام محمد هارون-طبعة المجمع العلمي العربي الإسلامي- بيروت- الطبعة الرابعة.
4) الجرجاني، عبد القاهر، أسرار البلاغة في علم البيان، تح: محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان.
5) الجرجاني عبد القاهر، 1978 دلائل الإعجاز، تح: محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
6) الجرجاني، عبد القاهر، الرسالة الشافية ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تح: محمد خلف الله، محمد زغلول سلام، دار المعارف بمصر.
7) ابن جني، أبو الفتح 1953 ـ 1956، الخصائص، تح: محمد علي النجار، دار الكتاب المصرية، القاهرة.
8) حمادي صمود- التفكير البلاغي عند العرب – تونس –1981م
9) الرّمّاني، إبراهيم، النكت في إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن. تحقيق محمد خلف الله أحمد ود. محمد زغلول سلام-دار المعارف –مصر القاهرة. 1968م.
10) العسكري، أبو هلال 1952، الصناعتين: الكتابة والشعر، ط:2، تح: علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل، طبع البابي الحلبي.
11) عبد القادر حسين -أثر النحاة في البحث البلاغي –- مطبعة نهضة مصر – القاهرة.
12) مصطفى بن عبد الله الرومي الحنفي- كشف الظنون- دار الكتب العلمية- بيروت 1413هـ